أسماء السكاف تكتب: لوتس
استيقظت صباحاً بابتسامة مُشرقة على رائحة القهوة التي حضَّرتها صغيرتها أو (كبيرتها) إن صحَّ التعبير، نادتها ابنتها: القهوة جاهزة ماما، غسلت وجهها وجلست معها.
لوتس ذات الثلاث عشر ربيعاً هي الابنة الكُبرى والأخت الكبرى لطفلين صغيرين، فتاة تمتلئ بالطاقة والحماس والمُشاغبة والعناد أحياناً، تغيرت كثيراً بعد أن حطَّت الحرب رحالها في بلدهم، لم تعد تُمارسُ أنشطتها التي اعتادت عليها، رُغم أنهم يسكنون قربالعاصمة منطقتهم لم تتضرر كما تضررت غيرها من المناطق المنكوبة في ذلك البلد الجميل الحزين، لم تعد تمشي مع أخويها للمدرسة صباحاً فالوضع لم يعد آمناً كما كان، لم تُدرك أبعاد هذه الكلمة تماما ولكنها كانت تسمع كما يسمع الجميع أصوات القذائف القادمة من بعيد وأحياناً من قريب وتسمع عن حوادث الاختطاف وغيرها من بعض الأقرباء عندما يجتمعون.
شربت الأم رشفتين من فنجانها وسألت ابنتها عنواجباتها المدرسية، بابتسامة ساخرة أجابتها لوتس: حتى الواجبات والدراسة تُشاركنا الحرب لم يعد أي شيءٍ كما كان.
تمضي الأيام بشكل قاتل من الملل والذعر المُصاحب لكل اللحظات والتحركات، لم تكن الأم مُمتنة أبداً ولا مسرورة لحال أبنائها بهذا الشكل الذي لم يعتادوا ولا يجب أن يعتادوا عليه، في ذات اليوم دخل والد لوتس مُسرعاً إلى المنزل طلب منهم حمل الخفيف من ثيابهم فقد سمع من مصدرٍ موثوق أن مُداهمةً كبيرة ستأتي مساءً وهو يعلم تماماً ماذا تعني كلمة مداهمة أو تفتيش، أخبرهم أنه كلَّم أخته وهي تنتظرهم في بيتها،في حقيبة واحدة وضعت الأم بعض اللوازم الأساسية والضرورية ووضعت الوثائق الرسمية معها، خرج الجميع ونظر الأب نظرة مُودعٍ لمنزله، لم يحتج لإطفاء الأنوار فالكهرباء مقطوعة من البارحة.
وصلت العائلة لبيت العمّة، استقبلتهم ببشاشة وترحاب في بيتها الصغير مع زوجها وأبنائها الأربعة، أعطتهم حجرة أبنائها ليبيتوا بها ريثما تهدأ الأمور في منطقتهم ويعودوا، ولكن ذلك لم يحدث ولن يحدث فبعد مُضي أيام وصلهم خبر منزلهم الذي دُمرَ بالكامل تقريبا وقعت اشتباكات أسفل عمارتهم وطالت منزلهم فلم يعد صالحاً للسكن.
تمضي الأيام كالموت البطيء على الجميع، ذبُلت لوتس كما تذبل أي وردةٍ لا ترى النور ولا تُسقى كما يجب وكلنا نعرف مصير الورود بلا ضوء.
دخل الأب ذات يوم وأخذ زوجته بأحد أركان البيت بعيداً عن الضجيج أخبرها أنه رتَّب أمر رحلة بحرية ليُغادر فيها إلى إحدى دول أوروبا مع لوتس،عارضت الأم وأوشكت أن تُسكته فأشار لها بيده نحو طفلتهما التي تجلس قرب أحد الشبابيك تنظر إلى اللاشيء كان واضحاً جدا كم من الكيلوجرامات فقدت خلال الأسابيع الماضية: أيُعجبك حالها وحال الصغيرين؟ نحن لا ننتظر شيئا يا امرأة ننتظر ذبولهم أمامنا وضياع أحلامهم ومستقبلهم فقط، من حقهم بل من واجبنا أن نُحاول ونسعى لنقلهم لمكانٍ أكثر أماناً.
قانون لمّ الشمل لجلب الأسرة في بلاد أوروبا يشترط وجود أحد الأبناء لتستطيع الأم القدوم لاحتضان طفلها، والانتقال بالقوارب الغير شرعية أو قوارب الموت كتعبيرٍ أدق غير آمن لعائلة بها صغار وامرأة لا تُجيد السباحة، لوتس ووالدها خفيفي الحركة يسبحون بشكلٍ جيد، كانت هذه الأسباب والمبررات التي يُحاول الوالدين إقناع نفسيهما بها أو ربما من مُحاولة طرد الأفكار التي تُداهمهما كلما فكرا بالموضوع بشكلٍ عقلاني.
مرَّت بضعة أيام مرض فيها أحد الطفلين ولم يتوفر المُضاد الحيوي المطلوب والكهرباء والماء تنقطعانلفترات أطول.
وافقت أم لوتس على سفر طفلتها مع والدها، جهزَّتها وودعتها بلحظةٍ لن تكفي حروف وكلمات العالم لوصف كم الألم والأمل فيها، وكما تنقطع أخبار كل من يركب تلك القوارب انقطعت أخبار لوتس ووالدها لأكثر من أسبوع، وللجميع أن يتخيل كم الضغط والتوتر الذي عاشت فيه الأم ويزيدُ عليه كلام وتهامس الجميع من حولها: ضحَّت بابنتها لتذهب لأوروبا، باعت طفلتها للموت لتؤمن لنفسها حياةً أكثر رفاهية.
وذات صباح عادت الروح فيها عندما رنَّ هاتفها برقمٍ خارجي وجاءها صوت لوتس ليروي ظمأ عشرة أيام من الترقب والانتظار والخوف والوجع.
استقرَّت لوتس ووالدها في منزل خشبي صغير جميل مع سيدة أوروبية تسكن الطابق السفلي ولهما الطابق العلوي ومن يوم وصولهما باشرا إجراءات استقدام الأم والصغيرين.
لوتس اليوم تذهب لمدرسةٍ قريبة من المنزل تتنفس هواءً نقياً وتأكل طعاماً شهياً وتنتظر…. ولا زالا ينتظران …
أسماء السكاف