أخبار منوعة

فن الحياة.. لماذا يجب أن يتعلم الأطفال الفلسفة؟

 

 

فضول الأطفال يدفعهم لطرح العديد من الأسئلة: «من أين أتيت؟»، و«لماذا نموت؟»، و«أين الله؟» وكلما أجبت، يعاودك الطفل بسؤال «لماذا؟»، وربما لا ينتهي الحوار إلا حين تسلم الراية وتقول: «لا أعرف».

هذا الفضول الفطري هو ما دفع العديد من الخبراء والفلاسفة للبحث في حاجة الطفل إلى معرفة الفلسفة، هناك من يرى أن الطفل فضولي بالفطرة وجريء ومغامر بينما هناك في المقابل من يرى أن الفلسفة لا تناسب الطفل لأنها تحتاج إلى قوى عقلية ناضجة، ومنهج يتسلح به الإنسان من زيف الطفولة وسذاجتها واستقبالها العفوي للمعارف.

حتى لا نُفقدهم البراءة

كان الفيلسوف وعالم النفس السويسري جان بياجيه الذي اشتهر بدراسته لمرحلة الطفولة، يرى أن الطفل قبل الحادية عشرة من عمره غير قادر على تطوير التفكير النقدي، فيما كان هذا السن تحديدًا -وما قبله- هو الذي رأى فيه أستاذ الفلسفة الأمريكي ماثيو ليبمان ضرورة تطوير التفكير النقدي فيه عند الأطفال، إذ لاحظ أن طلابه في الجامعة وإن كانوا قادرين على دراسة تاريخ الفلسفة إلا أنهم غير قادرين على «التفلسف».

يرى المؤيدون لرأي بياجيه أن الفلسفة تنبع أساسًا من مستوى من التفكير يجعل الحياة مقلقة ويدفع الإنسان للتفكير في قضايا تعتبر بالنسبة له غير محسومة، بينما الطفولة هي مرحلة الاطمئنان والسكينة. ويرى هؤلاء في تدريس الفلسفة للأطفال خطرًا نفسيًا عليهم إذ يسلبهم البراءة ويزجّ بهم في مشكلات الحياة ومآسيها قبل الأوان، كما أنها ستحدّ من خياله واتساع أفقه و«تسرق أحلامه ».

كما أن طبيعة الأسئلة التي يطرحها واكتفاء الطفل بأول جواب يقدم له فضلاً عن عدم سعيه للبحث داخل ذاته عن الإجابة واكتفائه بالبحث عنها لدى الآخرين – الكبار- يوحي بأنها صادرة عن غريزة الطفل، لا عن تأمل واندهاش من الوجود.

في العصور القديمة ساد هذا الاعتقاد إذ اعتبُر عقل الطفل القاصر صفحة بيضاء يمكن أن تنقش فيها المعارف منذ الصغر، غير أنها لم تشمل الفلسفة، باعتبار أن الطفل عاجز عن إدراك الحقيقة ولا يزال غير قادر، على إحكام قيادة عقله.

الفلسفة هي «الطفولة الدائمة»

بينما يرى الفريق المقابل أن دهشة الطفل وجرأته في اقتحام المجهول، وما يطرحه من أسئلة وجودية أزلية عن الله والأصل والمصير والموت -التي نعتبرها نحن الكبار الأكثر إحراجًا-،  هي في الحقيقة الأسئلة الفلسفية الكبرى التي يبحث الفلاسفة عنها عبر التاريخ، بحيث يمكن القول إن الفلسفة هي الطفولة الدائمة للفكر.

وهكذا يرى المؤيدون لتعليم الطفل الفلسفة أن الطفل يولد بذات إبداعية وعقل شجاع يملك القدرة على الخوض في اللانهايات، لكن التنشئة الاجتماعية تقمع هذه الجرأة وتسيّج عقل الطفل بأجوبة موروثة جاهزة، والحل الأمثل للحفاظ على الإمكانات الهائلة للطفل هو تكييف التنشئة الاجتماعية مع إمكانات الطفل بدلا من «تعليب الأطفال في قوالب جاهزة»، والنظر في البرامج التربوية لكي تتوافق هي مع قدراته وليس العكس، وتجاوز منطق الحقيقة المطلقة نحو الحوار والإيمان بأن الإمكانات البشرية أكبر بكثير مما نعرفه من خلال التاريخ.

الطفل ليس بمأمن من المشكلات

الطفل لا يسلم من مشكلات الحياة فضلًا عن أنه منذ أن يرى النور مهدد بالموت، وهناك أطفال الشوارع وضحايا الحروب، وضحايا المجاعات وسوء المعاملة وحتى الأطفال الذين يعيشون حياة أكثر أمانًا يتعرضون لموت أحد المقربين، أو التفكك الأسري أو غيرها من الأمور التي تدفع بالطفل ليتساءل، وهنا يأتي دور الفلسفة لتساعد الطفل على التطبّع مع المشهد الإنساني الدرامي، ويكتشف أنه ليس استثناءً.

ولا يعني الأمر الزجّ بالطفل في دروس فلسفة منظمة، أو قراءة نصوص في القضايا الفلسفية، وإنما فقط فتح حوار جماعي يمكن للطفل أن يتعلم من خلاله، ويلاحظ تعدد الأجوبة وتنوع الآراء ويعرف أنه ليس الوحيد الذي يطرح مثل تلك الأسئلة الكبرى.

إن الفلسفة مهمة لتعليم الأطفال الحياة، وحمايتهم من الصعوبات والمشكلات، وكان أول تيار أدخل الفلسفة إلى الأطفال الصغار ( المرحلة الابتدائية) في الولايات المتحدة تيار «الفلسفة للأطفال» على يد ماثيو ليبمان والذي انتقل بعد ذلك في أنحاء العالم خاصة في كندا وفرنسا.

عادة ما يكون للأطفال نوع من العبقرية التي تضيع عندما يصبحون كبارًا * الفيلسوف كارل ياسبرز

ماثيو ليبمان

كان ماثيو ليبمان فيلسوف أمريكي وأستاذ للمنطق بجامعة كولومبيا، وقد لاحظ أن فكر الطلبة عندما يدخلون الجامعة يكون قد تشكّل بالفعل ولم يعد بالإمكان تعديله أو تطويره، ومن ثم آمن بضرورة العمل مع الأعمار الأصغر في المرحلة الابتدائية والثانوية، ليتعلم الأطفال التفكير المستقلّ والنقدي.

وهكذا وضع برنامجًا لتدريس الفلسفة للأطفال يتكون من سبع قصص ألفّها بعناية، تتوجه كل منها إلى مرحلة معينة وتتنوع مفاهيمها بين التكيف مع العالم المدرسي وقواعد ومبادئ المنطق والهوية، وغيرها من المفاهيم الفلسفية التي صاغها ليبمان في قالب روائي ممتع، تمكّن الطفل من التعرف على ذاته وإعمال الفكر والتماهي مع أبطال القصص.

يقول ليبمان إن الفلسفة للطفل تكون بمثابة «طرح أسئلة عامة يمكن أن تكون مقدمة لدراسة التخصصات أخرى»، وهكذا تبنّى الفكرة في نهاية الستينيات من القرن الماضي في أمريكا ولاحقًا حَذَت دول أخرى في مختلف بقاع العالم حذو هذه المبادرة.

كيف تفيد الفلسفة الطفل؟

يوضح الفيلسوف الأمريكي جاريث ماثيوز المتخصص في تدريس الفلسفة للأطفال، أن العديد من الدراسات تؤكد قدرة الطفل في سن صغيرة على بناء حجج جيدة، وصياغة تساؤلات مهمة عن القيم، واللغة، وحتى نظرية المعرفة، وفضلاً عن قدرتها على تحسين أداء الأطفال في العديد من المواد الدراسية كاللغة والرياضيات والعلوم، فهناك أسباب أكثر أهمية لتفضيل تدريس الفلسفة للأطفال، منها قدرتها على دعمهم بقدر جيد من التفكير النقدي، وأهمية التساؤل الدائم عن جدوى الأشياء في حياتنا.

كما أنها تدعم قدرة الطفل على قول «لا» حينما لا يتفق مع رأي أو آخر، وعلى ألا ينصاع لرأي ما لمجرد أن قائله صاحب سلطة أعلى، وتقوية ثقته في ذاته، في طرح الأسئلة التي ترواده فيدرك أنها أسئلة واردة وأن آخرين غيره قد طرحوها من قبل، بذلك تتفتح عقول الأطفال وتستمر بدرجة النضارة ذاتها خلال المراحل التالية من حياتهم.

وتقول الكاتبة ميشيل سووي: «عندما نضع الأطفال على مَسِير الفكر الفلسفي في عمر مبكر، نستطيع منحهم هدايا لا تعوض: الوعي الأخلاقي والجمالي والسياسي بأبعاد الحياة، والقدرة على التعبير عن الأفكار بوضوح وتقويمها بصدق، والثقة في ممارسة التقويم المستقل والتصحيح الذاتي، وما هو أكثر من ذلك، فإن التقديم المبكر للحوار الفلسفي سيعزز احترامًا أكبر للتنوع وتعاطفًا أعمق مع تجارب الآخرين، وكذلك الفهم الضروري لكيفية استخدام العقل والمنطق في حل الخلافات».

بما أن الفلسفة هي الفن الذي يعلمنا كيف نعيش؛ فإن الأطفال يحتاجون لتعلمها بقدر ما نحتاج نحن في أي عمر؛ فلماذا لا نعلمهم إياها؟ الكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتين – منذ أكثر من 400 سنة

إن دور الفلسفة في حياة الصغار لا تكون لتعريفهم بالفكر الفلسفي، إنها فقط معيار منطقي نضعه بين أيديهم يحكم عملية التفكير ويزيد تقدير الذات لديهم، وهو دور يمتد ليزيد قدرتهم على الانتباه والتحصيل الدراسي.

كيف نعلّمهم؟

في المراحل الأولى يكون «الحوار» -خاصة بمشاركة مجموعة من الأطفال- طريقة جيدة لتعليم الأطفال عن التفلسف، على ألا يكون مبنيًا على قيادة مفردة توجه الحوار وتعطي الإجابات، وأن نختار موضوعات مثيرة، مثل تخيل نهايات مختلفة للقصص المعروفة «سندريلا» مثلاً و«أليس في بلاد العجائب»، يحسن الحوار قدرات الأطفال على الاستماع والتواصل مع الآخرين.

ينصح خوردي نومين صاحب كتاب «الطفل الفيلسوف »بإقامة الحوار بين الطفل ووالديه أن نتحلى بالموضوعية ونستخدم لغة بسيطة وألا نرجّح له رأيًا ما بل نكون على الحياد بما يسمح بإطلاق العنان لأفكاره وأرائه هو، كما ينصح في بعض الأسئلة التي يطرحها الطفل بأن نعيد الكرة إليه، فمثلا حين يسأل الطفل «لماذا نعيش إذا كنا سنموت في النهاية؟» تكون الإجابة «ماذا ترى أنت؟».

يقول روبرت شوارتز مدير المركز الوطني لتعليم التفكير في الولايات المتحدة، وأستاذ بجامعة ماساتشوستس في بوسطن إن هناك تغيير يحدث لدى الأطفال بمجرد دخولهم إلى المدرسة، إذ تتحول الدهشة والرغبة في المعرفة ويصبح القلق الوحيد لدى الطفل هو الامتحان، ويوضح أن الأساسيات الثلاثة التي يجب أن تتوافر في الحجرة الدراسية هي التفكير والتواصل والتعاون.

يعطي روبرت شوارتز مثالًا لحوار يمكننا عمله: لنضع أمام الطفل علبتين من رقائق الذرة وندعه يختار أحدهما، ثم نسأله عن أسباب اختياره – لماذا اتخذ هذا القرار- هل هي الرسوم على العلبة؟، هنا يمكننا أن نخبره ضرورة وضع الخيار الصحي في الاعتبار مثلًا وليس الشكل الخارجي للعلبة، ثم نناقشه في أسباب احتياجه لشراء العلبة من الأساس، والإمكانيات المتاحة أمامه، وعواقب اتخاذ القرار بالشراء؟، يقول شوارتز إن الأمر يشبه تمامًا الطريقة التي نتخذ بها نحن الكبار قراراتنا، لكننا هنا سنستخدم لغة تناسب عمر الطفل- في رأيه يمكن للطفل ذي الثلاثة أعوام فهم ما نقول إذا ما اخترنا اللغة المناسبة.

المصدر: ساسة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock