كتاب أكاديميا

أ. جاسم حسن يكتب: الذكاء العاطفي

الذكاء العاطفي في العمل – ثلاث مكالمات

“أن تغضب هذا سهل، ولكن أن تغضب من الشخص المناسب وبالدرجة المناسبة وبالوقت المناسب وللغرض المناسب وبالطريقة المناسبة فهذا ليس بإمكان كل شخص وليس بالأمر السهل” أرسطو

الغضب شعور يصعب التحكم به عند أغب الناس، وأحيانا يكون سببا في تدمير حياة البعض، فعلى سبيل المثال أحد الأشخاص اختلف مع مديره في العمل وفي لحظة غضب قدم استقالته من وظيفته المرموقة وظل أكثر من سنة بلا عمل ولا راتب وتعقدت أموره فتركته زوجته وطلبت الطلاق فخسر وظيفته وعائلته بسبب قرار اتخذه في لحظة غضب.

البعض يعتقد أن المشاعر لا مكان لها في بيئة العمل ولكن هذا ليس بالأمر السهل لأننا في النهاية بشر والمشاعر جزء أساسي داخلنا، لا يمكننا بسهولة إلغائها من حياتنا ولكن يمكننا أن نديرها بشكل إيجابي يتناسب مع بيئة العمل ويجعلنا نبدو أكثر احترافية في العمل، فمشاعرنا تظهر على شكل سلوك ، وان فشلنا في إدارة مشاعرنا بشكل فعال ستتحكم مشاعرنا في سلوكنا ونصبح ضحية لتلك المشاعر.

مخ الأنسان يتكون من ثلاثة: الجزء الصغير من المخ والذي يقع في أسفل المخ وفوق العمود الفقاري هو مخ الزواحف و يليه جزء صغير يشبه اللوز يسمى أميجدلا حيث تخزن جميع المشاعر، ثم يليه العقل المفكر والذي يشكل الجزء الكبير من المخ، كل جزء من المخ مسؤول عن حمايتنا فعقل الزواحف يتصرف بسرعة ويتخذ قرارات سريعة ليحمي الجسم من أي خطر ، فترى ردود أفعال سريعة ودون تفكير، كذلك العقل الصغير الذي يسمى الأميجديلا حيث تخزن المشاعر يتصرف لحمايتنا وهناك تواصل مستمر بين العقل المفكر والعقل العاطفي ، وهذا الاتصال هدفه تقييم تلك المشاعر للتحقق منها واختيار السلوك المناسب أو ارسال حدس بأن أمر مريب ويجب التيقن منه وليس هناك منطق من وراء هذا الحدس فقط شعور داخلي وعدم ارتياح من شخص أو قرار، وأحيانا يختطف العقل العاطفي العقل المفكر ويشله وتسمى هذه الحالة amygdala hijacks أي خطف الأميجديلا ، وعندما تحدث هذه الحالة يكون المتحكم في سلوكنا العاطفة فنتصرف بسلوك غير عقلاني فنصرخ على مسؤولنا في العمل أو زميل ونفقد السيطرة على ما نقول أو نفعل ولا ننتبه لذلك إلا بعد فوات الأوان.

التحكم بعواطفنا هو جزء من الذكاء العاطفي الذي يبدأ بمعرفة الذات واكتشافها ومعرفة مشاعرنا ومهارتنا ومعلوماتنا ثم القدرة على إدارة أنفسنا بشكل فعال بما في ذلك إدارة عواطفنا بالشكل الصحيح لاختيار السلوك المناسب للموقف ، وبعد تمكننا من معرفة ذاتنا وإدارتها وتحفيزها يمكننا معرفة مشاعر الآخرين والتعاطف معهم وبناء علاقات ناجحة مع الآخرين، الجملة السابقة هي ملخص الذكاء العاطفي Emotional intelligence (EQ) ، ويعتبر الذكاء العاطفي من المهارات الأساسية للنجاح في الحياة والعمل، وبعض الشركات الناجحة مثل HP  وغيرها عند اختيار موظفيهم يقدمون الذكاء العاطفي على الذكاء التقليدي IQ ( الذكاء اللغوي والمنطقي والرياضيات) ، لأنهم يعلمون جيدا أن الذكاء العاطفي أمر ضروري للنجاح في العمل ضمن فرق عمل والتعاون مع الآخرين واختيار السلوك المناسب في بيئة العمل لأن الشخص على علم بما يدور داخله من عواطف ويستطيع توجيهها بالشكل الصحيح والفعال. ولأوضح ذلك دعني عزيزي القاريء أخبرك بقصة محمد.

قصة موظف البنك (ثلاث مكالمات)

محمد تحدى أحد أفراد أسرته الذي سخر منه عندما قال له أنه سيعمل في أحد أفضل وأقوى البنوك وفعلا حصل محمد على وظيفة في أحد البنوك المرموقة وكانت أول وظيفة له في مركز الاتصال Call Center وبعد التدريب باشر عمله، خلال عمله كان يتلقى الكثير من المكالمات يوميا لكن محمد أتته ثلاث مكالمات غيرت مجرى حياته، كان محمد مستمتعا بالعمل حتى أتت تلك المكالمة الأولى.

المكالمة الأولى:
أتى محمد اتصال من عميل وكان غاضب جدا بسبب فارق وخطأ في حساب الفائدة وعندما سمع محمد المبلغ وكان تافها جدا فقال ضاحكا أنت غاضب ومتصل فقط لهاذا المبلغ (لنفترض أن المبلغ كان أفلاسا) فاشتط غضبا العميل وظن بأن محمد يستهزأ به فاعتذر محمد فورا وقال لم أقصد إهانتك أبدا لكن العميل استمر في الصراخ على محمد وصار يكيل له وللبنك الشتائم فما كان من محمد إلا أن أغلق السماعة في وجه العميل، فتعقدت الأمور وتقدم العميل بشكوى رسمية ضد محمد ووصلت الشكوى لمسؤول محمد في العمل ، ومن حظ محمد أن مسؤوله في العمل مدير متمكن ويعرف كيف يتصرف ، فبعد أن تفهم مع العميل ووعده بأخذ الإجراءات اللازمة وبعد أن حل مشكلته، جلس مع محمد واستمع له وكان محمدا خائفا من أنه سيتم طرده وسيشمت به الناس خصوصا من قالوا له بأنه لا يفلح للعمل في البنك، لكن المدير كان متفهما لحداثة محمد في العمل ويعلم بأنه تنقصه الكثير من المهارات ومنها مهارة التعامل مع عواطفه وخصوصا الغضب، فأرسله لدورة تتعلق بإدارة الغضب ، خلالها تعلم محمد على مجموعة من المهارات تساعده في التحكم بغضبه والتعامل بنجاح معه.

المكالمة الثانية:
مضت الأيام بعد الدورة بشكل اعتيادي لأشهر، حتى أتت تلك المكالمة الصعبة التي تضعه في اختبار صعب ، كان الاتصال من عميل أقل ما يقال عنه أنه مغرور ووقح ، كان العميل يتحدث بعنجهية وتعالي وغطرسه وكان محمد يرد عليه باحترافية وأدب ، وبعد أن زادت حدة كلام العميل وبدأ يشتم البنك ثم قام بالاعتداء اللفظي على محمد وبدأ يكيل له وابل من الشتائم ، اعتذر محمد عن الاستمرار في تقديم الخدمة فأغلق العميل السماعة في وجه محمد بعد أن أسمعه مزيدا من الكلام المسيء، أبلغ محمد مسؤوله بالحادثة فتم تحويلها إلى الإدارة القانونية التي قامت ببلاغ في المخفر ورفع البنك قضية ضد العميل وبعد التحقيق مع جميع الأطراف تمت إدانة العميل وصدر حكما بحبسه لعدة سنوات ولم يقبل محمد بالتنازل عن القضية رغم الضغوطات التي أتته.

المكالمة الثالثة:
كان يوم الجمعة وكانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا ، أجاب محمد الاتصال وكان على الطرف الثاني شخص يريد أن يقدم على قرض وسأله عن أقصى مبلغ يمكنه أن يحصل عليه فأجرى محمد العملية الحسابية وأبلغه بالمبلغ فقال له العميل أريد المبلغ الآن فاستغرب محمد من الطلب الغير معقول وقال للعميل: المعذرة اليوم يوم جمعة وكما تعلم بأنه يوم عطلة وإن شاء الله سيفتح الفرع الأحد فقط أبلغني بفرعك وسأسعى لأن تكون معاملتك جاهزة صباح الأحد ، فرد العميل: ” أنت حمار ما تفهم ، أقولك أبي الفلوس اليوم تقولي الأحد” وأغلق المكالمة في وجه محمد، جلس محمد يفكر هل يقوم بالإبلاغ عن هذه الحادثة كما فعل من قبل فتذكر الإجراءات والتحقيقات الطويلة ، أضف على ذلك كله أنه سيكون في إجازة الأسبوع الذي يليه وهو لا يريد أن يلغيها من أجل مكالمة عميل غاضب ، فقرر محمد أن يتجاهل المكالمة ولا يقدم فيها أي شكوى.

بعد أن عاد محمد من إجازته أبلغه زميله بضرورة الاتصال بهذا الرقم ، سأله من صاحب الرقم فقال إنه رقم عميل لم يكف عن السؤال عنك خلال إجازتك ولكني لا أعلم موضوعه ولم يقبل أن يخبرنا ، قام محمد بالاتصال بالرقم فكان الرد من الطرف الآخر: أهلا محمد قد لا تتذكرني ولكن هل تذكر قبل ثلاث أسابيع في يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة فتذكر محمد الاتصال الساعة الواحدة فقال له محمد تفضل كيف يمكنني مساعدتك وتناسى الكلام السيء الذي قاله العميل، فقال له العميل اتصالي ليس بخصوص القرض أنا متصل لاعتذر منك عن الكلام الذي قلته لك وأرجو أن تسامحني ، يكمل العميل كلامه : في صباح ذلك اليوم تعبت ابنتي الوحيدة المصابة بمرض السرطان وأخذتها للمستشفى الذي أبلغوني بأن حالتها جدا خطرة ، فعدت من المستشفى تاركا زوجتي معها واتجهت للمنزل لأني وفرت مبلغ علاجها  وخبأته في الخزانة لأني كنت أخطط لأخذها لأعلاجها في الخارج، ولكن عند عودتي اكتشفت بأن الخادمة وجدت مفتاح الخزانة وسرقت كل الأموال وهربت ، ولم أعرف كيف أتصرف ففكرت في أخذ قرض واتصلت بالبنك وأنت أجبت المكالمة ، وبعد أن أغلقت السماعة رجعت المستشفى ولم أعرف كيف سأتصرف ولكني وجدت زوجتي تجهش بالبكاء وعلمت بوفاة ابنتي الوحيدة، بعد إجراءات الدفن فكرت بالذين أخطأت بحقهم وأنت كنت الشخص الذي في بالي ، لذا أرجو أن تقبل اعتذاري.

مدرسة الحياة أصعب من المدارس التقليدية لأنه في المدارس التقليدية نأخذ الدرس أولا ثم ندخل الاختبار، بينما في مدرسة الحياة ندخل الاختبار أولا ثم نحصل على الدرس، ولنرفع نسبة نجاحنا في مدرسة الحياة علينا أن نكون مستعدين للاختبارات الغير متوقعة وذلك باكتساب كل المهارات والمعلومات لنكون مستعدين لأي نوع من أنواع الاختبارات التي يكون بعضها صعب جدا ويتطلب الكثير من القدرة العالية في التعرف على أنفسها وما نملكه من مهارات ومعلومات وإدارة عواطفنا والتحكم بها لنظهر بمظهر المحترفين دوما وأن نتعاطف مع من نتعامل معهم ونكون علاقات ناجحة مع الآخرين.

 

أ.جاسم حسن
معد وأحد مقدمي بودكاست ما قل ودل
http://sjnutshells.libsyn.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock