كفيفات يعلِّمن ضريرات.. البصيرة تُولِّد البصر
أنزلت مجموعة من المعلمات الكفيفات مقولة أمير الشعراء أحمد شوقي الخالدة «قف للمعلم وفّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا» من سماء الحلم إلى أرض الواقع، فحملن على كواهلهن أمانة «أسمى الرسالات»، واستحققن التبجيل والثناء والمناصرة والدعم، إذ لم تكتفين بقهر الظلام أمامهن بالإرادة والعزم، بل زدن عليه بالمضيّ قدماً في إنارة دروب الحياة لغيرهن، وتبديد عتمة الجهل أمام فتيات غير مبصرات، فأبصرن الحياة على ايديهن بالطموح والأمل والصبر الجليل.
هذه مجموعة من «معلمات الأمل» اللاتي أكدن أن المعلم الذي فقد نعمة البصر قادر على أن يعلم وينشئ جيلا واعيا ومثقفا، بقلبه وروحه وبصيرته.. وأن النجاح والتفوق لا يقتصران على المبصرين فقط، مؤكدات أن إعاقتهن لم تكن عائقا أمامهن، بل هي حافز لنقل التجربة للطالبات الكفيفات، وخلق الرغبة لديهن في التحدي والاعتماد على الذات والتمسك بالحلم والأمل لارتقاء سلالم المجد.
وقلن إنهن يوصلن رسالتهن العلمية بطرق تدريسية عدة، مثل طريقة برايل واستخدام حاستي اللمس والسمع، بالإضافة إلى المجسمات البارزة التي تمكن الطالبات من توظيف خيالهن واستيعاب المعلومة. التفاصيل في الأسطر التالية:
«تعايشت مع إعاقتهن، وابتكرت طريقة لتعليمهن اللغة الفرنسية، وأصبحت أعينهن التي يبصرن بها العالم الخارجي».
هذا ما قالته معلمة اللغة الفرنسية المبصرة نيرمين عباس، التي تعمل بمدارس التربية الخاصة، حيث ابتكرت طريقة جديدة لتسهيل لغة برايل لتعليم الكفيفات لغة أجنبية ثانية.
ولفتت نيرمين إلى أنها تعمل في هذا المجال منذ سبع سنوات تقريباً، وعندما نقلت إلى مدرسة النور بنات، كان شغلها الشاغل أن تكون للطالبات مادة علمية يدرسنها في البيت، إلى جانب الشرح في الصف.
وأضافت: «بدأت تسجيل الدروس بصوتي على أشرطة تسجيل، وتحتوي على كل ما هو موجود بالكتاب المدرسي من دروس، ولله الحمد حازت التجربة إعجاب الطالبات، وكلما تفوقن في امتحاناتهن، ادركت أنني نجحت في توصيل المعلومة».
وفي غمرة الحماس، تقول نيرمين: راودتني فكرة تعليم الطالبات طريقة برايل باللغة الفرنسية، كما في المواد الأخرى، وظللت ادعم طالباتي الكفيفات اللاتي يعشقن الفرنسية، وشجعت إحداهن وكانت تدرس في الصف الثاني عشر، على المشاركة في المسابقات والأنشطة التي تنظمها ادارة التربية الخاصة، بأن تلقي شعرا باللغة الفرنسية.
وأضافت: أجرينا بحثا على الإنترنت عن حروف برايل بالفرنسية، وكتبنا الشعر كله مترجماً إلى «برايل»، وقدمنا نسختين للجنة التحكيم، واحدة عادية، والأخرى بـ«برايل» وحصدنا المركز الأول، وبفضل الله تعالى ثم طالباتي نجحنا في تحقيق إنجاز مشرف ونصبح أول مدرسة تستخدم هذه الطريقة.
طريق التحديات
ولم تختلف تجربة معلمة اللغة العربية الكفيفة روان العنزي عن تجربة نيرمين.. فهي تحدت الصعاب وخاضت غمار التدريس، وكانت تطمح إلى دراسة الهندسة، ولكن عدم توافر التخصص العلمي في المرحلة الثانوية للمكفوفين أثناها عن رغبتها، لتختار تخصص اللغة العربية تأثرا بإحدى معلماتها التي كان لها أثر كبير في تنمية حب لغة الضاد لديها.
وتتعامل روان مع الطالبات الكفيفات في المرحلة الابتدائية معتمدة على حاسة اللمس، من خلال الوسائل المجسمة وتجسيم طريقة برايل للمكفوفين باستخدام «خلية برايل» المعدنية السداسية، وجهاز معلم برايل ذي الأزرار المضغوطة والمرسومة، إضافة إلى حاسة السمع من خلال الأجهزة الذكية المتضمنة مقاطع تربوية تفيد الطالبات.
وما كان طريق العلم خاليا من التحديات، وتقول روان انها واجهت صعوبة في تعليم برايل للطالبات وتنمية استخدام الحاسة لديهن، إضافة إلى صعوبة تعليم طريقة برايل لبعض الطالبات ممن يتمتعن ببقايا بصر، وهو أمر يحتاج إلى جهد مضاعف في الشرح والتدريب، لافتة إلى أن قلة منتجات الأطفال المطبوعة بطريقة برايل من مطبوعات وأدوات وسّعت الفجوة بين الكفيف وطريقته في الكتابة والقراءة.
جهود مبعثرة
أما معلمة اللغة الانكليزية خلود العنزي، وهي كفيفة، فتقول انها اختارت تدريس «الإنكليزية» لأنها تناسب مؤهلها العلمي، لافتة إلى أن عدم توافر مجالات وظيفية اخرى تناسب المكفوفين دفعها الى البحث عما يناسب ظروف إعاقتها البصرية، لا سيما ان عملها الأول كـ«مأمورة بدالة» لم يكن من احلامها.
وقالت خلود إن التدريس مهنة ليست سهلة، فما بالك إذا كان مخصصاً لطالبات كفيفات! وأحياناً نواجه طلبة يعانون ازدواجية في الإعاقة، وهذا الأمر يشتت تركيز المعلم ويبعثر جهوده داخل الفصل، معربة عن الحاجة إلى المزيد من الوسائل التقنية الحديثة لتدريس المكفوفين، مثل النظم الصوتية والأجندة الإلكترونية والعصرية، التي توفر الجهد والوقت للطلبة والمعلمين.
وأضافت أن تأخر توفير الكتب المطبوعة بطريقة برايل، ويمتد أحياناً إلى منتصف الفصل الدراسي، يثقل كاهل المعلم، الذي قد يضطر أحياناً إلى تعليم الطالبات شفهياً، أو يلجأ إلى طباعة الدرس ونسخه لتطبيق مهارتي القراءة والكتابة في الفصل.
وبينت أن المعلم الكفيف يستخدم في أداء مهامه أجهزة ووسائل مختلفة، منها آلة بيركنز للكتابة، والمجسمات الملموسة لإيصال المعلومة، إضافة إلى تشغيل ما يخدم المنهج من مقاطع مسجلة ومؤثرات صوتية تجعل العملية التعليمية أكثر يسراً وإثارة، وهذه الوسائل تثير المتعة في نفوس الطالبات، ويبدو التأثر الإيجابي واضحاً عليهن في المهارات الحركية، كالمسابقات وأداء بعض الحركات تحت إشراف معلميهن.
إلى بر الحياة
وعلى شموع النور والأمل، أضاءت رئيسة قسم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، منى العازمي، وهي من ذوي الإعاقة البصرية، طريق طالباتها ومعلماتها الكفيفات، ومدت يد العون لهن وقادتهن إلى بر الحياة.
ومسيرة منى التعليمية لم تختلف عن مسيرة قريناتها المعلمات والطالبات الكفيفات، فقد عاشت مثلهن التجربة ذاتها بحلوها ومرها، وهي بدأت مسيرتها التعليمية بعد تخرجها من كلية الآداب قسم اللغة العربية، والتحقت بمدرسة النور معلمة للمرحلة المتوسطة، ثم المرحلة الثانوية.
واسترسلت منى وقالت: استخدمت كغيري الوسائل التعليمية المتاحة لتدريس الكفيف من كتاب برايل وآلة بيركنز، وابتكار بعض الوسائل التي تخدم المقررات التعليمية، مثل ما يتعلق باستخدام حاسة التذوق، إذا كان في الدرس ذكر لنوع من الأطعمة، وتقديم بعض المجسمات الملموسة التي تقرب الصورة للطالبات، إضافة إلى إجراء بعض المسابقات الحماسية خاصة في فرع النحو، الذي لا تحبذه الطالبات، ولكن مع المسابقات أصبح من أحب أنواع الدروس إليهن.
واضافت: تم ترشيحي رئيسة قسم وفق الإجراءات المتبعة في تدرج الوظائف الإشرافية، من اختبار تحريري ومقابلة ودورة تدريبية وغير ذلك، مما يؤهل لإدارة القسم ورئاسته،
ولله الحمد أشغل الآن منصب رئيسة قسم للمرحلة الثانوية، مما يدرج تحت مسؤوليتي الطالبات والمعلمات.
وأوضحت منى أن من الواجب على معلمة الكفيفات، سواء أكانت مبصرة أو كفيفة، إتقان طريقة برايل وممارستها داخل الصف مع الطالبات لكسر الحاجز بين المعلم والطالب، ومتابعة الطالبات تحريرياً وتصويب أخطائهن، لكي لا يستمر الإعوجاج الكتابي ملازماً لهن في الحياة، ونتبع في تعليمهن منهج التعليم العام، والكفيف يتمتع بذكاء يمكنه من مجاراة المبصر تعليمياً والتفوق عليه أحياناً.
ذكاء الكفيف
أوضحت رئيسة قسم اللغة العربية بالمرحلة الثانوية منى العازمي أن من واجب معلمة الكفيفات، سواء أكانت مبصرة أو كفيفة، إتقان طريقة «برايل» وممارستها داخل الصف مع الطالبات؛ لكسر الحاجز بين المعلم والطالب، ومتابعة الطالبات تحريريا وتصويب أخطائهن، مشدّدة على ان الكفيف يتمتع بذكاء، يمكّنه من مجاراة المبصر تعليمياً، بل والتفوّق عليه أحياناً.
المصدر:
القبس