ثقافة الحمية الغذائية ولغتها المضللة
هي حولنا في كل مكان، نجدها في الكتب المخصَّصة لأنواع الحميات المختلفة التي غالباً ما تصبح على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وعلى أغلفة المجلات، وفي البرامج التلفزيونية التي تقدِّم لنا النصائح الغذائية على مدار الساعة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعية، حيث تطالعنا إعلانات من هنا وهناك، تدور كلها في فلك النحافة وكيفية الحصول على الأجسام الرشيقة، من ترويج أنواع الشاي المنحّفة إلى طرق تحضير الوجبات الخفيفة، مروراً بأساليب تنظيف الجسم من السموم. كما نجدها في الدعوات للاشتراك في النوادي الرياضية لصقل أجسامنا تشبهاً بأجسام “مثالية” نجدها على صور الإعلانات في كل مكان، وفي ممرَّات السوبر ماركت، حيث تحظى المنتجات “الخفيفة” على المكانة المتقدِّمة على الأرفف البارزة، حتى إنها باتت جزءاً لا يتجزأ من أحاديث الأصدقاء. إنها ثقافة الحمية (الشائعة باسميها الإنجليزي: دايت، والفرنسي: الريجيم) التي بدأت تفرض علينا مجموعة من الأفكار والقيم والعادات تضع التركيز على الوزن والشكل والحجم أكثر من الصحة وسعادة العيش.
من أين أتى هذا الهوس بالنحافة وضرورة فقدان الوزن للوصول إلى شكل من أشكال الأجسام المثالية؟ ومنذ متى راح الأطباء وشركات المنتجات الغذائية على حد سواء يجنون الملايين من انشغال الناس باتباع الحميات والسعي للحصول على “الأطعمة الصحية”؟ لا أحد يعرف بالضبط منذ متى وضع البشر المثل الأعلى للجسم المثالي كمعيار، لكننا نعرف أين ومتى اخترعت كلمة “حمية”، فهي أول ما ظهرت في اليونان القديمة. في سياقها الأصلي، لم تركِّز كلمة diaita فقط على تناول بعض الأطعمة لتحقيق فقدان الوزن، بل كان المقصود منها تحديد طريقة حياة كاملة تشمل الطعام والشراب ونمط الحياة والتمرين. وباستثناء نصيحة الجري من دون ملابس والقيء المنتظم، لا تزال توصيات النظام الغذائي اليوناني القديم تبدو وكأنها نصيحة معقولة للغاية.
ففي كتابها “السعرات الحرارية والكورسيهات: تاريخ الرجيم على مدى ألفي عام” تقول الباحثة لويز فوكسكروفت عن اليونايين القدامى: “إنهم لم يفهموا كل شيء بشكل صحيح، لكنهم كانوا يعلمون أن العقل السليم والجسم الصحي ضروريان من أجل مجتمع ناجح”.
وبعد تلك المبادئ التي رسمها اليونانيون القدامى ظهرت مواقف مختلفة بالنسبة للسُّمْنة والنحافة على مر العصور. فكانت السُّمْنة في أوروبا في القرون الوسطى ناتجة عن جشع الملوك والطبقات الغنية، على عكس الطبقات الفقيرة التي كانت تعاني من قلة التغذية. كما كانت السُّمْنة تُعدُّ في بعض الأحيان معياراً أساسياً من معايير الجمال لا سيما عند المرأة. وكان ذاك المفهوم نفسه موجوداً في البلدان العربية حيث نجد بعض المدائح بالمرأة الممتلئة. فكانت المرأة العبلاء أو الخديجة أو البرمادة أو خرساء الأساور هي المرأة الجميلة، بينما كان العرب يتعوذون بالله من المرأة النحيفة – الزلاء (خفيفة الشحم): ويقولون: “أعوذ بالله من زلاء ضاوية كأن ثوبيها عُلِّقا على عود”.
وعلى الرغم من صدور أول كتاب عن الحمية الغذائية في عام 1558 في إيطاليا بعنوان “فن العيش طويلاً” من تأليف شخص يدعى لويجي كورنارو، استغرق الأمر بضع مئات من السنين لكي تصبح ثقافة الريجيم راسخة في مختلف المجتمعات. وكان الحافز الأكبر على ذلك هو تطوّر وسائل الإعلام الجماهيرية في القرن التاسع عشر، وبروز ثقافة المشاهير والصور المغرية قبل وبعد وظهور إعلانات الأنظمة الغذائية. فأدَّى كل ذلك إلى تغذية الشعور بالعار والقلق اللذين راحا يدفعان الناس إلى الاستياء من أجسامهم، وإلى السعي في بلوغ الصورة المثالية التي كانت ترسمها الإعلانات. فانتشرت في الأسواق مجموعة هائلة من أنظمة الأكل الجديدة والأطعمة التخسيسية والمستحضرات والمشروبات والأجهزة الكهربائية. وراجت عمليات شفط الدهون وتنظيف القولون في العالم السفلي للطب، حيث استغل الأطباء النساء، بشكل خاص، اللواتي كن على استعداد للمعاناة من الألم وعدم الراحة لفترات طويلة وإنفاق الأموال الطائلة على خفض الدهون الزائدة. بدأ كل ذلك منذ نحو 100 سنة، واستمر حتى الآن، مما أدَّى إلى قيام صناعة هائلة تجني الأرباح الطائلة وتتغذَّى على ثقافة الحمية الغذائية هذه.
المصدر:
وكالات