د. فهد راشد المطيري يكتب: مشهد من فساد التعليم
حكى لي أحد الزملاء في مهنة التدريس قصة حقيقية، وهي قصة من قبيل “شرّ البلية ما يُضحك”! يقول الزميل: بينما كنتُ جالساً في مكتبي، إذا بأحد الأساتذة من قسم آخر يطرق الباب راجيا منّي المساعدة، وعندما سألته عن أمره، تبيّن أنّه في حاجة إلى آلة تصوير، وبينما كنت أهبّ لمساعدته، لاحظت أنّ الورقة التي أراد تصويرها عبارة عن قائمة تحتوي على أسماء اثني عشر طالباً، وأمام كلّ اسم الدرجة النهائية لكلّ طالب، لكنّ ما شدّ انتباهي هو أنّ جميع الطلّاب إلاّ واحداً حصلوا على تقدير “امتياز”، في حين أنّ الطالب المتبقّي حصل على تقدير “جيد جداً مرتفع”، فسألته ممازحاً: إذا كنت بهذا الكرم الطائي في منح الدرجات، فما الذي حملك على منح درجة “جيد جدا مرتفع” لهذا الطالب على وجه الخصوص؟ فنظر إليّ نظرة حائرة وأجابني باللهجة المحلية: “والله ما أدري، يمكن ما حضر اختبار الفاينل”!
لو اكتشف زبائن أحد البنوك أنّ مدير البنك فاسد ومحتال لسارعوا إلى سحب أموالهم، لكنّ الأمر مختلف في قطاع التعليم، فالأستاذ الفاسد من ذوي الكرم الطائي ينعم بسمعة طيبة بين أوساط الطلاّب، فالغالبية العظمى من الطلاب يظنون واهمين أنهم مستفيدون من فساد أساتذتهم، وكلّما زاد فساد الأستاذ زاد عدد الطلّاب الطامعين في كرمه الطائي، والسبب في أنّ الطلاب لا يتصرفون كما يتصرّف زبائن البنك يعود إلى حقيقة أنهم لا يحرصون على تحصليهم العلمي حِرص زبائن البنك على أموالهم، كما أنّ النجاح بالنسبة إليهم لا يُقاس بحجم ما نهلوا من المعرفة، بل بعدد ما نالوا من الدرجات! هذا هو معيار النجاح أيضا عند غالبية الأساتذة من ذوي الكرم الطائي، فمن يفتقر إلى المعرفة لا يملك إلّا الهِبات يستر بها جهله، هبات يُغدقها الأستاذ على طلابه الذين هم ليسوا أقلّ منه استهتارا بتحصيلهم العلمي.
هناك نطاق أوسع لهذا الفساد القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة بين الأستاذ والطالب، فعندما يحرص مَن في أيديهم شأن التعليم على نسبة النجاح أكثر من حرصهم على مستوى التحصيل العلمي، وعندما يحرص أولياء الأمور على نجاح أبنائهم وبناتهم أكثر من حرصهم على مدى مشروعية هذا النجاح، فإن الاستنتاج الطبيعي يشير إلى وجود مصلحة مشتركة بين مسؤولي التعليم وأولياء الأمور، ولعلّ القارئ يتذكّر تلك العبارة الشهيرة التي تزيّن الشهادة النهائية في مراحل التعليم الابتدائي، تلك التي تشير إلى أنّ حامل الشهادة “ناجح ويُنقل إلى الصفّ الذي يليه”، وهي عبارة أشبه ما تكون بقانون من قوانين الطبيعة، ذلك أنّ جميع الطلّاب وبلا استثناء كانوا ينجحون وينتقلون إلى الصف الذي يليه، ويبدو أنّ مسؤولي وزارة التربية آنذاك كانوا يجيبون بالإيجاب عن السؤال القرآني البلاغي: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؟!
فساد التعليم حالة خاصة من فساد الوضع العام، ومن الصعب تقييم حجم الضرر الأخلاقي الناتج عن الفساد بكلّ أشكاله، لكن في كل عملية فساد هناك مستفيد وهناك متضرر، وسمة المستفيد من الفساد الأنانية، في حين أنّ مصير المتضرر من الفساد الإحباط، وبما أن عدد المستفيدين من الفساد أقل دائماً من عدد المتضررين، فإن المجتمع الفاسد ينتج أقلية أنانية وأغلبية محبطة.