جريمة إلغاء مجانية التعليم بالمغرب
حين تقع جريمة ما يطرح السؤال التالي: من له مصلحة من وراء هذه الجريمة؟
لا شك أن تدمير المدرسة العمومية بشكل مممنهج جريمة ما بعدها جريمة. إنها جريمة كبرى ستدفع الأجيال الحالية واللاحقة ثمنها غاليًا. فمن المستفيد من وراء هذا الاستهداف الممنهج للمدرسة العمومية؟ وأي تكلفة مادية واجتماعية سيتعين علينا جميعًا دفعها؟
الدور “الأمني” للدولة
لم يعد يخفى على أحد سعي الدولة بشكل حثيث نحو “بيع” المدرسة العمومية؛ و”تسليع” التعليم. وجعل المدرسة في خدمة رأس المال (العابر للحدود) والمقاولات الكبرى (والشعار الجاهز بطبيعة الحال هو تحقيق التنمية البشرية). إن الدولة عازمة على رفع يدها عن قطاع التعليم؛ لتتركه في مهب رياح السوق. وما مشروع إلغاء “مجانية” التعليم (وهو ليس كذلك ما دام يمول من المال العام) إلا حلقة من مسلسل طويل.
وراء هذه الجريمة تقف إرادة المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) في تحجيم دور الدولة (ليصير بوليسيًا مقتصرًا على حفظ الأمن: أمن مشاريعهم). والإجهاز على كل القطاعات ذات الطابع الاجتماعي.
إن سياسة صندوق النقد الدولي (ومن يسبح في فلكه) تقوم على “قتل” و”تصفية” الدول بإغراقها بالديون. ومتى صارت كذلك فقدت سيادتها؛ واستبيحت أراضيها ومقدراتها من طرف رأس المال. (وما سياسة التقويم الهيكلي ببعيدة عنا! ولنستحضر أزمة اليونان).
ولأن ديوننا تتراكم – يومًا بعد يوم- فما علينا سوى خوصصة كل شيء، حتى نستطيع سداد تلك الديون. فكما بيعت الشركات العمومية بأبخس الأثمان حان الدور على المدرسة العمومية لتلقى المصير نفسه (منذ 2008 إلى الآن أغلقت 200 مدرسة عمومية، وتم تفويت بعضها للخواص).
تلك الديون بطبيعة الحال (وفي ظل غياب الديمقراطية والحكمة والشفافية….) فإنها تتحول إلى مشاريع وهمية، وإنجازات تفاخرية لا يمكن أن تسهم في تنمية حقيقية (إذ إن هذه الأخيرة مشروطة ببناء الإنسان لا بناء الحجر). ولنا في مشروع القطار فائق السرعة TGV خير مثال. (فهل نملك طرقات معبدة تزيل عن القرى عزلتها حتى نفكر في إنجاز مشروع TGV!).
إنها ديون (قيود) تؤخذ باسم شعب بأكمله، وتذهب إلى جيوب وحسابات المسؤولين في سويسرا (وحتى لا يقال إننا نطلق الكلام على عواهنه عودوا إلى التحقيقات الصحفية وتقارير المجلس الأعلى للحسابات وتقارير الجمعيات والهيئات الوطنية، للاطلاع على فضائح نهب وتهريب المال العام).
الاستبداد يتغذى على الجهل
من مصلحة أي نظام سياسي مبني على الاستفراد والاستبداد بالقرار السياسي والاقتصادي ويحتكر المجالات العسكرية والدينية، أن ينتعش الجهل والأمية في أوساط الشعب. ولا أظن نظامنا السياسي يخرج عن هذه القاعدة.
فإذا كان إصلاح التعليم رهينًا، أولًا وقبل كل شيء، بتوفر الإرادة السياسية، فإن تدمير المدرسة العمومية أيضًا نتاج إرادة سياسية.
إن كل مشاريع الإصلاح التي طالت المنظومة التعليمية خرجت من المطبخ السياسي للنظام. وكل المجالس واللجان التي أشرفت على صياغة السياسة التعليمية خرجت من رحم النظام السياسي. وإذا كان هذا الأخير نفسه يعترف بفشل المنظومة التعليمية فهل لديه الجرأة لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية جراء هذا الفشل؟( إعمالًا لقاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة!)
إن الإجهاز على المدرسة العمومية واستهداف “مجانيته” من شأنه الضرب بشعارات التعميم والجودة “المدرسة قاطرة التنمية” وتكافؤ الفرص عرض الحائط.
ولا ينبغي بعد ذلك أن نستغرب تفاقم مشاكل انتشار الجريمة والانحراف وتعاطي المخدرات و”الكفر” بالوطن.
(لن نستغرب إذن حين نقرأ خبرًا مفاده سعي الدولة لبناء 37 مؤسسة سجنية في أفق 2018 بميزانية تقارب 140 مليار درهم).
يقال إن مصائب قوم عند قوم فوائد
على إيقاع فقدان الأسر ثقتها في المدرسة العمومية استغل الكثيرون هذا الأمر. فبدأت تتناسل المدارس الخصوصية كالفطريات. فصارت المدرسة الخصوصية (مع أنها ليست أفضل حالًا من المدرسة العمومية) مشروعًا يدر على أصحابه أرباحًا كبيرة. ولا شك أن هذا اللوبي (الذي يستثمر في التعليم) ليس من مصلحته أن تقوم للمدرسة العمومية قائمة.
وداخل المدرسة العمومية نفسها سنجد مدرسين- مدرسات خوصصوا التعليم قبل أن تفعل الدولة (عن ظاهرة الساعات الخصوصية أتحدث).
فما هي تكلفة هذا التدمير الممنهج؟ “إذا كنت تعتقد أن تكلفة التعليم باهظة فلتجرب الجهل”. كما قال محام أمريكي.
إن تكلفة التجهيل المادية تكمن في إهدار الفرصة تلو الأخرى لتحقيق نهضة شاملة تستهدف الإنسان أولًا وقبل كل شيء. أليست الدول التي تقدمت هي تلك التي آمنت بأهمية رأس المال البشري؛ ومنحت لشعوبها الإمكانات المادية والمعنوية للإبداع والإسهام في تنمية الوطن؟ فكيف إذن تستثمر الدول الصاعدة في تعليم أبنائها وبناتها وتعتبره أقدس المقدسات، بينما تعتبرونه أنتم عبئًا ثقيلًا على كاهل الدولة وجب التخلص منه؟ هل أعمتكم مصالحكم الشخصية والضيقة إلى هذا الحد ففقدتم القدرة على النظر أبعد من أقدامكم؟
لا تستغربوا إن صنعتم- بسياساتكم العمياء- أجيالًا حاقدة. عليكم وعلى نفسها؛ على “الوطن” (أليس إحراق الذات أشد أنواع “الكفر” بالحياة؛ وأكبر تجسيد لليأس؟).
لا تتتعجبوا وأنتم ماضون في تفريق المغرب إلى مغربين- بتنفيذكم لمخططات فاشلة، مغرب الفيلات ومغرب الكاريانات.
الطامة الكبرى أن البؤساء لن يتركوكم تنعمون بالعيش الكريم، طال الزمن أو قصر. ولكم في التاريخ عبرة يا أولي الألباب! وما تنامي ظاهرة التطرف الديني إلا واحدة مما نحصده، وسنحصده جميعًا جراء تخريب المدرسة العمومية.