صفية العلوي تكتب : يا طلاب الأدب اتحدوا!
بعضهم يواجهك بصدمة بادية، وبعضهم الآخر يقابلك بابتسامة استخفاف أو شفقة في أفضل الأحيان، أما الأصدقاء منهم فيحاولون ثنيك عن قرارك بشتى الطرق متقمصين دور الناصح، فأنت في نظرهم سائر في طريق لا مناص لك فيه من الفشل والضياع.
أفراد يحكمون عليك انطلاقـًا من تخصصك، يضعونك في واحدة من خانتين اثنتين ويحددون مصيرك بجوابك عن سؤال واحد: أأنت علمي أم أدبي؟ ناجح أنت أم فاشل؟ والسؤالان متطابقان في نظرهم، فاختيار دراسة الآداب أو العلوم الإنسانية ـ بمعناها العام، الشامل للتاريخ، الجغرافيا، القانون، علم النفس، علم الاجتماع، العلوم السياسية، والفلسفة..ـ في مسارك الدراسي أو الجامعي رديف للفشل.
إن الأمر محسوم في نظرهم، فأصحاب المعدلات المرتفعة يساقون إلى التخصصات العلمية زمرًا، أما ذوو المعدلات المتوسطة والضعيفة فيحشرون في تخصصات لا صلة ولا ميول لديهم تجاهها، وحتى إن وجد لديهم شغف بها فإنه يكون آيلاً للانكسار تحت وطأة الوصم الاجتماعي الذي يلاحقهم إلى أن يثبتوا العكس.
للأسف، هذه النظرة الدونية لطالب الآداب خصوصًا ولطالب العلوم الاجتماعية أو الإنسانية بشكل عام لا تنحصر لدى أقلية أفراد المجتمع، وإنما تحظى بمباركة أغلبيتهم بشكل يجعلها مترسخة في الوعي الجمعي والسياسي كذلك، وما تصريحات بعض سياسيينا المتناثرة هنا وهناك والتي ما يزال صداها يتردد على مسامعنا إلا تعبير عن هذا الواقع المعيش، واقع يحاولون مداراته بكون رهانات الدولة الآنية هي رهانات اقتصادية ومالية، أساسها جلب الاستثمارات، تطوير الأنشطة الصناعية وإنتاج الثروة، وهي مطالب لن يتم تحقيقها إلا بتوفير واستقطاب اليد العاملة الكافية ذات التكوين التقني والمهني المحض، أما التكوينات الأدبية والاجتماعية في نظرهم تظل مجرد تكوينات ثانوية تدخل في باب الكماليات والترف الفكري ليس إلا.
ولم يقتصر الأمر على مجرد التصريحات، وإنما استبقتها واستتبعتها سياسات فعلية تنصب في اتجاه «التضييق» على هذه الدراسات، تضييق وتجاهل يظهر في ضعف مناهج التكوين وآليات البحث العلمي المتاحة بها من جهة، وفي محدودية منافذها وآفاقها من جهة أخرى بشكل يجعل الكثير ممن «كتب عليهم» الانخراط فيها يشعرون بأنهم يوجدون في المكان غير الصحيح، أما الراغبون في سبر أغوارها فيواجههم نفق مظلم يضطرهم إلى وضع أكثر من علامة استفهام بشأن مستقبلهم، فهل نتوفر ولو على مجرد معهد عال واحد للعلوم الإنسانية أو للدراسات القانونية أو الأدبية، يوفر مناهج دراسية متخصصة تراعي طبيعة هذه العلوم، ويتطلب مستوى وكفاءة خاصتين لولوجه كغيره من المعاهد العلمية المتعددة؟ الجواب سيكون قطعًا بالنفي.
أتساءل ما الذي يخيفهم في العلوم الإنسانية؟ أقدرتها على خلق إنسان حالم، متفائل، متطلع إلى التغيير والإصلاح؟ أم قدرتها على التأسيس لمجتمع أكثر تقدمًا وانفتاحًا؟ من الذي يخيفهم أكثر هل الأديب القادر على الارتقاء بالذوق اللغوي والفكري وإبداع عوالم رحبة توسع ما ضيقه الواقع، أم عالم الاجتماع المشخص لمواطن الخلل في بنية المجتمع، أم الفيلسوف المسائل والمنتقد لكل ما يعتبر من المسلمات البديهية لدى عامة الناس؟
إن الرهان الحقيقي لأي تنمية شاملة ولأي صناعة مثمرة ومربحة على المدى البعيد، هو الاستثمار في الإنسان عبر تكوينه فكريًا وثقافيًا وتمكينه من مختلف أبعاد المعرفة سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية أو السياسية أو القانونية، والتي تساهم بشكل مباشر في رفع مستوى وعي الفرد الحضاري والقيمي وتساهم في نقله من وضعية الجمود إلى وضعية الحركة والفعل، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالآداب والعلوم الإنسانية، فشعار معظم التقارير العالمية للعلوم الاجتماعية المعدة من قبل اليونسكو والمجلس الدولي للعلوم الاجتماعية منذ انطلاقها سنة 1999 وإلى حدود سنة 2016، كان شعارها هو أن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي الحل، فهي القادرة على مواجهة كبرى التحديات المعاصرة وعلى فهم واستيعاب التحولات البنيوية التي تشهدها المجتمعات العربية بشكل عام تشخيصًا، وعلى التصدي للمدخلات الأجنبية المؤثرة سلبًا على النسق الاجتماعي القائم مواجهة وتغييرًا، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث ذات الاختلالات الاجتماعية المحتدة في مقابل جودة نظم البحث المتدنية، «فالمجهودات المبذولة من أجل مواجهة التحديات العالمية وفهم الاتجاهات الاجتماعية الكبرى، أصبحت العلوم الاجتماعية قادرة على أن تلعب فيها الدور المغير والمعدل للمعطيات القائمة، فهي توفر أدوات التصنيف، البحث والتحليل، بالإضافة إلى النصوص التي تمكن من رصد، تسمية وتفسير التطورات التي قد تواجه المجتمعات الإنسانية، كما تزود بالوسائل التي تمكن من تقييم السياسات والمبادرات المتخذة في هذا الصدد وتحديد الفعال منها من عدمه«. «حسب التقرير العالمي للعلوم الاجتماعية الصادر سنة 2010 تحت عنوان الفجوات المعرفية».
فعلى الدول العربية، باعتبارها تدخل في زمرة الدول النامية، أن تأخذ هذه الدراسات والتوصيات بعين الاعتبار، وأن تصيغ سياساتها التعليمية المستقبلية على ضوئها، وأن تعي أن سير مجتمعاتها لا يمكن أن يستقيم ما لم يكن مستندًا على دعامتي العلوم الحقة والعلوم الإنسانية بمعناها الواسع، من منطلق أن ما هو أدبي أو ما هو إنساني يقف على قدم المساواة مع ما هو علمي، إنه ببساطة منطق التقدم الذي ارتقى به غيرنا وتجاهلناه، والذي قد يستمر تجاهله ما لم تناصره إرادة حقيقية للتغيير، فيا طلاب الأدب اتحدوا، ولتعلنوها بفم واحد: الأدب والعلم دعامتا كل إصلاح من حاول التفريق بينهما هلك!
المصدر: ساسة بوست