«الفلاسفة والفنانين».. عباقرة أم مجانين؟
لم تكن الجملة الشائعة حول العبقرية والجنون التي تقول: “إن شعرة رقيقة جدًا تفصل بين العبقرية والجنون” جملة بلا معنى، إذ يبدو أن قائلها قد عانى هذه المعاناة حول الجنون والعبقرية، أو أنه قد شاهد”مجنونًا/ عبقريًا” في الآن نفسه.
صاحَبَ الجنون العديد من العبقريات، وبغض النظر عن كون الاتهامات الموجهة لسقراط بالجنون حقيقية أم لا، فإن الجنون كان اتهامًا سهلاً ومباشرًا ضد العديد من المفكرين والأدباء والفنانين والفلاسفة الذين جاؤوا دومًا بالجديد.
عبقرية أم جنون؟
حسب أرسطو فإن الجنون يبدأ بميل الإنسان إلى العزلة عن البشر والتأمل، تنتهي هذه الحالة بالصرع أو الجنون أو الانتحار.. تتوقف هذه الحالة عند المبدعين الكبار عند حدٍ معين لأن الإبداع يلجمها!
لكنَّ أرسطو لم يعش حتى يرى ألتوسير وهو ينهي حياة زوجته تمامًا، ويموت وحيداً في مصحة عقلية بعد عمر حافل بالفلسفة، أو يشاهد نيتشة الذي تحول جنونه لحالة شاملة لمدة أحد عشر عامًا! بالتأكيد أيضًا فإن أرسطو لم ير فرجينيا وولف وهي تنتحر بعد كتابة روايتها الأخيرة!
“ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون، فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير وإما باتجاه الشر. فالمجنون يُسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل”
*الفيلسوف الفرنسي ديارو
مع تطور علم النفس بدأ العديد من علماء علم النفس التأكيد على كون الشخصيات الكبرى في التاريخ شخصيات “مَرَضِيَّة”، وقد كتب العديد من النقاد والكتاب حول هذه المسألة “الجنون والعبقرية” وكتب أكثر من كاتب حول شخصيات محددة ومعروفة كانت عبقرية ومجنونة في الوقت نفسه، وحسب بعض الدراسات فإن الشاعر جيرار جونرفال كان مصابًا بتهيج هومي، وكان هذا المرض هو السبب في إبداعه.
عباقرة مجانين أو مجانين عباقرة!
يحتفظ التاريخ الإنساني بالعديد من العباقرة الذين كانوا “مجانين” أو عندهم مشكلات عقلية حادة، بدايةً من اتهام سقراط بالجنون وحتي جي آر دي فيرنال مرورًا بألتوسير وبلزاك وروسو وبودلير وحتى الشاعر الفرنسي آرثر رامبو وفلوبير، وهذه بعض الأمثلة القليلة جدًا على هذه الحالة:
فريدرش هولدرلين.. أحد أهم الشعراء الألمان
يعتبر هولدرلين من أشهر الشعراء في الأدب الألماني، بدأ دراسته الدينية في إحدى مدارس ألمانيا الدينية عام 1788، وكان فريدرش يهرب من المحيط الديني العام إلى الأدب والشعر، وبدلاً من أن يتخرج من المعهد الديني كواعظ بدأ هولدرلين في كتابة الشعر، وبعد وفاة حبيبته التي كان متزوجًا من غيرها وهي متزوجة من غيره، أصيب بانهيار عصبي، ويعرف هولدرلين كأحد العباقرة الذين كانوا مجانين – بسبب وفاة حبيبته – وتوفي عام 1834.
نيتشه.. لقد عانيت من ألم الوحدة كثيرًا!
تستطيع حكاية نيتشه أن تؤكد هذه الفرضية: الأمور النفسية (الأزمات والأشياء الجيدة) تتدخل تدخلاً كبيرًا في نظرة الفلاسفة للأمور، وبغض النظر عن صحة الفرضية من عدم صحتها، فإن قصة نيتشة جديرة بالتأمل.
أحد عشرَ عامًا من الجنون
هل كان نيتشه يعرف مصيره (كونه عبقريًا) عندما كتب في أحد كتبه أن اسمه سيقترن بشيء ما كبير سيضع الإنسانية كلها أمام مأزق؟ عاش نيتشه وحيدًا فمن فشلٍ في الحياة العاطفية إلى فشل على المستوى العملي؛ حيث لم يجد نيتشه تلاميذ نجباء يستطيع أن يورثهم فلسفته.
كانت علاقتة العاطفية بلو سالومية محورية في حياته؛ حيث اعتبر نيتشه بعد ذلك المرأة فخًا صنعته الطبيعة للرجال، وحاول نيتشه أن يقنع لو سالومية بالبقاء وعدم هجره لكنها رفضت، فقبَّل قدميها لتبقى لكنها لم ترض.
قبل موته وُجد نيتشه يهاجم حصانًا في الشارع بلا أي سبب، وتوفي عام 1900 وقد ترك إرثًا فلسفيًا كبيرًا، ويعتبر أحد أهم فلاسفة العالم في القرن الثامن عشر.
فان جوخ.. في إحدى نوباته العقلية قطع أذنه اليمنى
“لم يكن فينسينت فان جوخ يعلم بأن لوحاته ستباع في أغلى المزادات في العالم الآن، فقط كان يخرج من حالته العقلية والنفسية المزرية بالرسم!”
بدأ الهولندي يرسم، كعادته لوحات جميلة ومع شهرته كانت أيضًا حالته العقلية ليست على ما يرام، فقد دخل جوخ المشفى العقلي عدة مرات، وكانت تنتابة أزمات عقلية حادة، ففي إحدى هذه الأزمات قطع أذنه اليمنى، وفي إحداها حاول أن يبتلع لوحاته التي رسمها.
في آخر خمس سنوات من عمره رسم جوخ أكثر من 800 لوحة زيتية، كانت هذه الفترة صعبة للغاية، ما جعل جوخ يطلق رصاصة من مسدس على صدره، وتسببت في تردي حالته الجسدية، وعندما زاره أخوه في المستشفى قبل موته قال له جوخ: “الحزن يدوم إلى الأبد”، وتوفي على إثر تلك الرصاصة عام 1890 عن 37 عامًا فقط.