كتاب أكاديميا

طالباتنا والثقافة ذات الجواهر المتلألئة| مقال بقلم أ. د. لطيفة الكندري 

 

إن افتتاح مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي من أهم الأحداث التاريخية الدالة على شغف دولة الكويت بالريادة في مضمار الفنون والعلوم والابداع والتواصل الإنساني فلسفة وممارسة. ولقد صدق سمو الأمير صباح الأحمد الصباح عندما عبر عن مشاعره في افتتاح هذا الصرح بقوله إن مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي يمثل الوجه الحضاري للكويت. إن من مظاهر الحياة المتحضرة العناية بالخبرات الجمالية لأنها تخلد الأمجاد الإنسانية وتسمو في تمجيد القيم والبطولات الوطنية.

مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي تحفة معمارية رائعة رابضة وادعة على شاطئ الخليج العربي قادرة على غرس قيم إنسانية رفيعة وهذه مسئولية جسيمة لتصبح الكويت واجهة حضارية ويقع على عاتق المسئولين وجميع المثقفين تسخير هذا المركز الفخم لأداء رسالته النبيلة في بث الفنون، وترسيخ العلوم، وامتاع الجماهير من كل حدب وصوب. إن مثل هذه الصروح الثقافية يقينا بحاجة لعدد كبير من نجوم الفن والكتابة لتوفير مادة علمية تجذب الجماهير وتستثمر طاقاتهم وتشاركهم في تذوق الفن وصناعته وتحقيق قدر كبير من التواصل بحيث تتسع مسارحنا لاحتضان القيم الإنسانية الكبرى التي تجعل عالمنا أجمل وأوسع. هذا الحراك الثقافي المبارك يتفق مع قيمنا الأصيلة التي تحث على التسامح وقبول الآخر ورعاية الفنون والآداب كما ينص عليه الدستور الكويتي. الفنون من أهم اللغات العالمية العابرة للقارات وهي متصلة بحركة المجتمع.

ومن زاوية تربوية فإن طالباتنا – في قسم التربية البدنية والموسيقية والفنية والتصميم الداخلي واللغة والعربية وأقسام اللغات وغيرها من الأقسام- لديهن فرصة كبيرة للإفادة من مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي والاسهام الإيجابي في تطوير أداء البرامج المقدمة في هذا المنجز الذي نستبشر به خيرا. إن شغل الطاقات الشبابية بالخير من البواعث الأساسية لإيجاد مراكز ثقافية تحتضن الفتيان والفتيات لقضاء أجمل الأوقات كي يحققوا ذواتهم بما ينفع البيئة المحلية ضمن اطار الأبعاد المكانية والزمانية التي تعطي للتجربة الفنية قيمتها في مخاطبة عقل وروح الإنسان. وفي هذا السياق الكريم أقول التربية القويمة تمهد الطريق للعيش مع الفن والتماهي معه كمطلب لتقدير الأعمال الفنية ودعمها. إن دراسة الفنون والعلوم والآداب لا قيمة لها إذا لم ترتبط بخبرات وتجارب الحياة فالدراسة لا تغني عن ممارسة ما ترشد إليه العلوم وتحث عليه. جميع التخصصات ذات قيمة عالية تثري الميادين الأخرى والعلوم المتنوعة فينبغي لطالب العلم التمكن من العلوم والآداب والتفنن في صناعتها واستخدامها في أغراض التربية والتعليم.

ومن الجميل جدا أن نفسح المجال للشباب والعوائل لقضاء أوقاتهم بالاستمتاع بأداء المبدعين في الأوبرا وإظهار تجليات الابداع. الأوبرا خالدة بخلود الفكر اليوناني ولقد جاء القرن السادس عشر الميلادي وتحديدا في أواخره وظهرت الأوبرا في مدينة فلورنسا بإيطاليا لتجعل من المسرح الغنائي ساحة ثقافية تستوحي من التراث اليوناني مقومات انطلاقاتها ثم مرت بمراحل عديدة حتى استقرت على شكلها الحالي لتخاطب العقل والوجدان وتمتع العين، وتطرب الأذن في تناغم فريد. وفي حياتنا المعاصرة أصبحت الأوبرا (Opera) تجمع بين حسن الالقاء، وجمال الألحان والأنغام وانتظام الحركات، وابهار المشاهد عاطفة وفكرا. ارتبطت الأوبرا في عصر النهضة بالطقوس الدينية النصرانية ثم ما لبثت أن تطورت وتوسعت مقاصدها لتصبح وسيلة للتعبير عن المشاعر البشرية الجياشة وكل ما تفيض به قريحة الفنانين والأدباء والمفكرين فغدت الأوبرا ترجمانا لنشوة المحبين، وميدانا يسع الروايات العالمية ويعيد صياغتها مع الألحان والحوار والتمثيل المتقن الذي يجذب المعجبين بالموسيقى ويخاطب خيالهم، ويحقق آمالهم، ويوسع مداركهم مما يسهم في احياء الثقافة العالمية والمحلية عبر السهرات الثقافية الراقية.

ومن جهة أخرى يعاني البعض نفسيا من تصحر فني شديد، وجفاف جمالي مخيف فلا يستسيغ ألوان الفنون ولا يتفاعل إيجابا مع صنوف الامتاع فينتقد كل مرفق جديد يساهم في ابراز الجماليات الفنية. هذا الصنف يرفض ايقاظ الحس المرهف لدى الناشئة ويُوجد المعاذير، ويتصنع الحجج لإبعاد الناس من أجواء الفرح ومنعهم من التعمق في الخبرات الفنية. إن ذم المسرح، وتسفيه المرح، ومهاجمة الفن والتمثيل والرسم والتصوير مشكلة أصابت الأمم ولا زالت تسبب العجز في الفكر والواقع. وهذا لا شك يعيق المشاريع الوطنية، ويقلص مساحات الترفيه والتثقيف في بلدنا. إن التوجه التربوي لدولتنا يتمركز حول تكوين شخصية قادرة على إنماء نفسها، واثراء مجتمعها. ولقد حرصت الدولة على إيجاد معاهد وكليات تعتني بالخبرات الفنية والجمالية كي ينطلق الشباب في موكب الحضارة وبما ينسجم مع هويتنا الوطنية. للأسف فإن محاربة الفنون والجمود الفكري والتشدد الديني من أسباب انحراف الشباب وتدني المجتمعات على مستوى الفكر والذوق والأداء. كثير من الأفكار الراقية يفهمها البعض متأخرا بعد ممانعة شديدة مما يسبب تشوها معرفيا، وتأخرا ادراكيا. أن مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي خطوة مهمة وتاريخية لفتح آفاق ثقافية تلبي احتياجات الناس ليس هذا فحسب بل توثق العلاقات بين الدول والحكومات.

وعلى صعيد الواقع الطلابي فإنني أريد أن أشدد على أن جميع التخصصات في كلياتنا لها أهميتها ودورها في رقي المجتمع. أريد من كل طالبة في التربية الفنية والموسيقية والبدنية والدراسات الأدبية والعلمية أن تفتخر وتحب تخصصها وتتوسع وتتعمق في مجالها لنشكل جميعا نظرة مجتمعية إيجابية للفنون فهذه ليست تخصصات ثانوية هامشية كما يزعم البعض. وبناء على ما سبق فان التخصصات الأدبية والفنية والعلمية منظومة متكاملة لبناء شخصية الإنسان، وإعمار الأرض.

إن احتفاليات الكويت المتزامنة مع افتتاح مركز جابر الأحمد الثقافي يؤصل ويؤطر ما سبق ذكره من قيم تعليمية سامية، كما أنها جديرة بإضفاء مظاهر السرور والبهجة على وطننا الغالي. إن المراكز الثقافية خير مؤشر ومبشر على قدوم نهضة حضارية سوف تبرز لنا – بعون الله – مجموعة من المبدعين في مجالات الفن وتنمية الحس الإنساني. وعلاوة على ذلك فإن هذه النقلة النوعية قادرة على تحريك الساحة الثقافية وتطعيمها بالمناشط الجديدة المفيدة فهي خير وسيلة للارتقاء بالحركة السياحية في الكويت، والالتقاء بالثقافات المتنوعة، ومد جسور التعاون مع الشعوب المختلفة، وإيجاد قدر كبير من التسامح الحضاري، وتوفير بيئة لمزيد من التفاهم بين الشعوب العربية والعالمية.

سيجد الشباب وغيرهم ضالتهم في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي لعرض مواهبهم، وتشكيل هواياتهم، وتنمية ميولهم بما يحقق النفع لذواتهم ووطنهم والسجل الإنساني المتعطش للعطاءات الجميلة. إن استيعاب المجتمع بكافة شرائحه لدور الفنون المسرحية ذات العروض الغنائية، والأعماق التاريخية، والمساحات النفسية، والمقطوعات الموسيقية، والالقاء المنغم متعة روحية تفتح بوابة جديدة لصنع مستقبل أفضل يقدر حقيقة المراكز الثقافية بكافة أطيافها. الأوبرا التاريخية والواقعية والهزلية والخيالية والتواشيح الدينية مؤهلة لإسعاد الإنسان ومخاطبة وجدانه وتحريك كوامنه، فقائد الأوركسترا يعلمنا التركيز والانتظام والدقة والتذوق والتفاعل مع الأحداث والأفكار والانفعالات وأخيرا تعلمنا الأوبرا أن التمرين المستمر على صقل المهارات أساس الاتقان في العروض الجماعية.

المراكز الثقافية في حقيقتها مؤسسات تعليمية واسعة ذات رسالة إنسانية خالدة، ومن هذا المنطلق فإنني أشجع على وضع أهداف وخطط مدرسية وجامعية لزيارة مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي ومكتبتها ومرافقها لنغرس في أعماق الناشئة حب الجمال والإنسان والابداع، وليكونوا في المستقبل القريب طاقات إيجابية تمثل الوجه الحضاري للكويت وتشدو بحب التسامح. ومن الجانب الفلسفي فلقد كتب رواد التربية من مثل جون ديوي عن دور الفن في بث القيم الإنسانية الكبرى واثراء حياة المجتمع إذ أن الفنون تقدم خبرات جمالية لا تقتصر على طبقة أرستقراطية أو غيرها فكل انسان له ذوقه في الاستمتاع بالفن والجمال.

إن الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة افتتاح مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي مناسبة وطنية عزيزة رسمت البسمة على الوجوه، وأدخلت السرور في الصدور فرحا بالأنوار المتلألئة بالأمل، والنجوم الزاهرة بالإبداع.
أ.د لطيفة حسين الكندري

العميد المساعد للشئون الطلابية بكلية التربية الأساسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock