لغة «شكسبير» أم لغة «موليير».. حيرة النظام التعليمي المغربي بين الإنجليزية والفرنسية
في خطوة مفاجئة، سنت وزارة «التعليم العالي»، في المغرب، قرارًا يقضي باعتماد «اللغة الإنجليزية» في مناقشة بحوث «الدكتوراه» كشرط أساسي لنيل الدرجة، بحيث يتوجب على الباحث استيفاء أربعة شروط لاجتياز أطروحات الدكتوراه، ممثلة في نشر مقالة علمية واحدة على الأقل باللغة الإنجليزية، واعتماد مراجع بهذه اللغة، ثم كتابة ملخص للدكتوراه بالإنجليزية، بالإضافة إلى مناقشة الأطروحة باللغة الإنجليزية.
أثار القرار جدلًا حادًا بين المهتمين بالشأن التعليمي، خاصة أن النظام التعليمي في المغرب يرتكز على اللغة الفرنسية ـ في مقرراته الدراسية ـ من بين باقي اللغات الأجنبية، إلا أنه يبدو أن السياسة التعليمية المغربية بدأت تنفتح قليلا نحو اللغة الإنجليزية.
التعليم في المغرب واللغة الفرنسية
يرتبط حضور اللغة الفرنسية في المغرب تاريخيًا بالمستعمر الفرنسي، ومنذ هذا الحين غدت اللغة الأجنبية الأولى داخل النظام التعليمي والإداري والعسكري، علاوة على مجال المال والأعمال.
قبل حلول عهد الحماية الاستعمارية سنة 1912، كانت الأمية تسيطر على الأغلبية الساحقة لسكان المغرب، وكانت المدارس القديمة نادرة، وغارقة في التقليد؛ إذ كانت تقتصر على تحفيظ الأطفال سور من القرآن، وحروف اللغة لعربية، أما المحظوظون من الأعيان في تلك الفترة فكانوا يشدون الرحال إلى جامع «القرويين» بمدينة «فاس»؛ من أجل تحصيل دروس إسلامية، وتعلم شيء من الحساب والمنطق، على يد فقهاء الجامع.
لكن بعد مجيء المستعمر ظهرت المدرسة العصرية لأول مرة في تاريخ المغرب، إلا أنها لم تؤسس في البداية لأجل تعليم أبناء المغرب، وإنما أتت لتكوين أبناء المستوطنين الأوروبيين. ثم بعدها أنشأ المستعمر مدارس حديثة يستفيد منها أبناء الأعيان والميسورين.
طوال فترة الاستعمار، كانت ترتكز المدارس على اللغة الفرنسية في التعليم، عدا مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، كما أنها كانت مقتصرة على أبناء النخبة.
في عام 1956 استقل المغرب، وسن سياسة تعليمية قائمة على أربعة مرتكزات: التعميم، والتعريب، والتوحيد، ومغربة الكوادر. حققت هذه السياسة التعليمية بعض النجاحات، مثل انتشار المدارس بمختلف المناطق المغربية، وزيادة أعداد الاطفال «المتمدرسين»، بعدما كان التعليم فئة قليلة من السكان.
لكن في المقابل فشلت سياسة تعريب المواد التعليمية، واحتفظت اللغة الفرنسية بمكانتها المحورية داخل النظام التعليمي المغربي، خصوصًا على المستوى الجامعي، حتى الساعة. ويطالب البعض بالتركيز على اللغة الإنجليزية، بدلًا من لغة فرنسا، التي لم تعد ناجعة، كما كانت في السابق.
الإنجليزية تقتحم التعليم المغربي
بدأ انتشار اللغة الإنجليزية في المغرب مع بداية الألفية الجديدة؛ إذ ساهم شيوع استعمال الإنترنت بين الشباب المغربي في تحفيزه لتعلم اللغة الإنجليزية، وزاد الاهتمام بها خلال السنوات الأخيرة بالأخص.
بحسب إحصاء أعدته «المندوبية السامية للتخطيط» لسنة 2015، فإن 18.3% من ساكنة المغرب يتقنون قراءة وكتابة اللغة الإنجليزية، فيما 66% من السكان يستطيعون قراءة وكتابة اللغة الفرنسية.
وبالرغم من استمرار سيطرة اللغة الفرنسية على اللسان الأجنبي للمواطن المغربي، إلا أن هناك تزايدًا ملحوظًا في عدد المقبلين على تعلم اللغة الإنجليزية، سواء بالمراكز الخاصة لهذه اللغة، أو عبر منصات تعلم الإنجليزية على شبكة الإنترنت.
وقد سبق لرئيس الحكومة «عبد الإله بنكيران»، أن صرح بتوجه السياسة التعليمية نحو اللغة الإنجليزية، قائلًا إنّ «الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة، وإذا كنا سنختار، فإننا يجب أن نختار الإنجليزية؛ لأنها لغة العصر، ولغة العلم، والتجارة، ولا أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تعلم الإنجليزية جيدًا».
بدوره أشار وزير «التربية الوطنية والتكوين المهني»، «رشيد بلمختار»، إلى أنه سيبدأ تدريس اللغة الإنجليزية من المستوى الرابع الابتدائي، بعدما كانت غائبة تمامًا عن المرحلة الابتدائية. وبالتالي فإن هناك توجه نحو الإنجليزية، يتعزز داخل المنظومة التعليمية المغربية من خلال تعديلات متتالية، آخرها اعتماد الإنجليزية في اجتياز أطروحات الدكتوراه.
معركة الفرنكفونية والأنجلوساكسونية بالمغرب
بحكم الماضي الاستعماري، تهيمن اللغة الفرنسية على جل القطاعات في المغرب، بل إنها تتفوق في بعض الأحيان على اللغة العربية، كالشأن مع قطاع المال والمصارف، وقسم الهياكل الإدارية العليا، بالإضافة إلى تدريس التخصصات العلمية بالجامعات، وبالرغم من تزايد الاهتمام باللغة الإنجليزية، بيد أنه من المستبعد أن تحل محل الفرنسية، على المدى القريب أو المتوسط؛ لاعتبارات تاريخية وثقافية.
ارتبط تعلم اللغة الفرنسية تاريخيًا بأبناء النخبة السياسية، والاقتصادية للبلاد، ولا يزال هذا الأمر قائمًا حتى الآن؛ إذ يبعث معظم الوزراء والبرلمانيين أبناءهم للدراسة في فرنسا، بمن فيهم من رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران؛ لتجهيزهم فيما بعد لتقلد المناصب المهمة بالبلاد، ومن ثم أصبحت اللغة الفرنسية، كما قال أستاذ التعليم العالي «سعيد بناجح»، بمثابة «حبل سري ثقافي سياسي، يربط بين فرنسا والنخبة الحاكمة في مجال السياسة والمال والإعلام».
لذا، يبدو أنّ أية محاولة للانفتاح نحو لغات أخرى، مثل الإنجليزية، سيكون من باب التنوع، وليس الاعتماد عليها، بدلًا من اللغة الفرنسية، باعتبار أن الأخيرة تتجذر في الهياكل الإدارية السامية في مختلف القطاعات، مما يجعل استبعادها، كما يطالب البعض، مهمة عويصة، بالنظر إلى مقاومة «اللوبي الفرنكفوني» وتغلغله في جسم النخب.
من جهة أخرى، هناك العديد من الأسباب التي تجعل لغة «شكسبير» مؤهلة لاحتلال مكانة لغة «موليير» داخل المنظومة التعليمية المغربية؛ إذ تُعد اللغة الإنجليزية الأكثر انتشارًا عالميًا؛ فيتحدثها كلغة أولى، زهاء 25% من سكان العالم، بعدد 1.8 مليار ناطق باللغة الإنجليزية، ناهيك عن ملايين الناس في مختلف دول العالم الذين يتحدثونها كلغة ثانية أو ثالثة. بينما تحتل اللغة الفرنسية المرتبة التاسعة من حيث الانتشار، بنسبة 3,05% فقط من ساكنة الأرض.
تهيمن أيضا اللغة الإنجليزية بنسبة ساحقة، على باقي لغات العالم في مجالات الاقتصاد والإنتاج العلمي والإبداع الفني، علاوة على ذلك تسيطر على محتوى الإنترنت بنسبة تقارب 90%، بالإضافة إلى أن الترجمة بالإنجليزية تتفوق على أي إنتاج مترجم بلغة أخرى، في المقابل، لا تستطيع اللغة الفرنسية منافسة اللغة الإنجليزية في أي من هذه المستويات.
كان هذا كافيًا؛ كي تتبنى تونس حديثًا، اللغة الإنجليزية في منظومتها التعليمية، بدلًا من الفرنسية؛ إذ أقرت سياسة إجبارية لتعلم الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية، ووضعت اجتياز اختبار «توفل» شرطًا أساسيًا لولوج الدراسة الجامعية، وتسعى الحكومة التونسية إلى رفع عدد ساعات تدريس اللغة الإنجليزية بالمرحلة الثانوية مطلع العام القادم. وبخلاف تونس لا تبدو الجزائر متحمسة نحو إدراج اللغة الإنجليزية في سياساتها التعليمية بجانب اللغة الفرنسية التي تعتبر اللغة الأم الثانية للجزائريين.
وكيفما كان اهتمام السياسات الحكومية باللغة الإنجليزية، فإن العديد من الشباب المغاربي لا ينتظر من حكوماته قرارات لتعزيز حضور «لغة العصر»في النظام التعليمي، بل يبادر إلى تعلمها ذاتيًا عن طريق مواقع الإنترنت الخاصة بتعلم اللغات.
ساسة بوست