من أجل تعليم بدون مدارس: العالم يتجه نحو التعليم الذاتي
كيف سيكون التعليم في المستقبل، هل باستطاعتنا الاستغناء عن المدارس في العملية التعليمية بعد الآن، هل سنصل إلى المرحلة التي بإمكان كل فرد منا الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها في غضون ثوانٍ معدودة، وبهذا تكون العملية التعليمية كلها سواء في المدرسة أو في الجامعة مجرد عادة قديمة؟
بدأ العالم الهندي سوجاتا ميترا أستاذ علوم التواصل واللغة في جامعة نيوكاسل بإنجلترا، حديثه في محادثات “تيد” بعنوان “لنقم ببناء المدارس في السحاب” وسأل الحضور كيف يمكن أن يكون التعليم في المستقبل؟ ولكي يجيب على هذا السؤال، يجب عليه أن يعرض تجاربه الشخصية لإثبات أن التعليم يمكن أن يكون خارج المنظومة التعليمية، بل ويمكن أن يقوم الفرد بتعليم نفسه ما شاء وكيفما شاء.
يقول ميترا بأن الأمر ليس صعبًا إن أردنا تتبع مصادر المناهج التي تُدرّس الآن في مختلف المدارس، فأغلبها يعود إلى مئات السنين، حيث كان البشر يتناقلون المعرفة من بعضهم البعض عن طريق أطنان من الأوراق المكتوبة بخط اليد، بدون هواتف وبدون إنترنت، وبدون وسائل تواصل اجتماعي حديثة وفائقة السرعة، لقد استطاع البشر نقل المعرفة في العالم عن طريق نظام متكامل من المنظومات البشرية وليس الأسلاك الإلكترونية، وهو مازال موجودًا حتى هذا العصر ولكن تحت مسمى مختلف، ألا وهو النظام البيروقراطي في كل الأنظمة الإدارية حولنا.
يجب عليك أن توفر العديد من الموظفين القائمين على إبقاء ذلك النظام البيروقراطي في طور العمل، لذلك خلق البشر مؤسسة جديدة تسعى لتوفير هؤلاء البشر بمهارات معينة تساعدهم على العمل في هذا النظام البيروقراطي، تلك المؤسسة هي المدرسة، أو النظام التعليمي الصارم بشكل عام.
المدرسة هي المؤسسة القادرة على توفير عدد هائل من البشر يتطابقون في المهارات مع بعضهم البعض، فكلهم يتخرجون من المدرسة وهم قادرون على القراءة والكتابة بخط جيد، وأيضًا يجب أن يكونوا قادرين على أداء العمليات الحسابية الأساسية كالضرب والطرح والجمع والقسمة، وهذا ما جعل النظام التعليمي الصارم، المُطبَق في أغلب الدول، قوي ومسيطر للغاية، حيث سعت الأنظمة الاستعمارية سابقًا كذلك إلى جعله متطابقًا في الدول الأم والدول التي يتم احتلالها، فيكون لدى العالم الآن فرصة أن يتم إرسال عامل أو موظف من الهند على سبيل المثال إلى كندا، ولا يزال يجده قابلًا لأداء المهام المطلوبة منه، لأنها لا تكون غريبة بالنسبة له.
إذن يأتي السؤال هنا متبعًا بصيغة تعجبية، لماذا تكون المدارس مملة للغاية الآن؟! نعم، يجد العديد من روّاد المدارس في جميع أنحاء العالم أنها شيء ممل، حيث يتابع “ميترا” بأن لا يمكننا وصف النظام التعليمي الآن بالنظام الفاشل، فهو ليس فاشلًا بالتأكيد، فهو منظم الإدارة، وممنهج بطريقة رائعة، فقد تم إنشاؤه بطريقة متسلسلة ومنظمة ولا يمكننا أبدًا وصفه بأنه ناقص أو ساذج، ولكن مشكلتنا مع النظام التعليمي في المدارس في عصرنا الحالي، أننا لا نحتاجه بعد الآن.
نحن نعلم الآن أن البشر وصلوا إلى مرحلة أنهم يمكنهم العمل من أي مكان أرادوا، ووقتما شاءوا، وبالطريقة التي يفضلونها في العمل كذلك، وهذا ما لم تُعدنا المدرسة من أجله، لقد أعدتنا المدارس لنكون ضمن تيار العمل الحكومي المتسلسل والبيروقراطي، ولكي نكون جزءًا من الآلة الكبيرة، لنقوم بتوجيه أجهزة الحاسوب لأداء عملها، فلم نعد نحتاج للكتابة بخط مهذب كما كان من قبل، ولا يجب علينا حتى أن نكون مؤهلين بخبرات عالية المستوى،ولكن بعد ثورة العصر الواحد والعشرين التكنولوجية، وبعد انفتاح العالم بأسره على بعضه البعض، واختراع أنواع من الوظائف لم يكن يعرفها مؤسسو النظام التعليمي في المدارس والجامعات، تكون المدرسة أمام تحٍد كبير جدًا، ألا وهو كيف يمكنها إعداد الأجيال الحالية لهذا الموكب من التطور التكنولوجي الهائل، الذي أبطل العديد من النظريات والفرضيات والأحداث التاريخية التي مازالت تُدرّس حتى الآن في مدارسنا؟
قام ميترا بتجربة التعليم الذاتي على أطفال في إحدى ضواحي الهند الفقيرة، فقام بوضع جهاز كمبيوتر تحت شجرة، وقام بمراقبة استخدام أطفال لم يستخدموا جهاز كهذا من قبل، ولا يعرفون اللغة الإنجليزية، ولا يعرفون ما الإنترنت، ثم سمح للأطفال باستخدام الجهاز، وانصرف عن المكان لمدة 8 ساعات، وحين عودته، وجد الأطفال بدأوا في استخدام المتصفح على الإنترنت، بل ويقومون بتعليم بعضهم البعض كيفية استخدام الكمبيوتر.
ظن ميترا أن هناك من قام بتعليمهم من أحد المارة، لذلك استطاعوا التعرف على الجهاز واستخدامه بهذه السرعة، لذا كرر التجربة في منطقة نائية، بحيث تقل فرصة إيجاد مهندس كمبيوتر في المكان، ولا حتى إيجاد شخص متعلم، لذا قام بوضع الجهاز في مكان عام، ورحل عن المكان، ليعود بعد بضعة أشهر ويجد الأطفال استطاعوا استخدامه، بل ولعب ألعاب الفيديو عليه، وعندما سألهم ميترا عن كيفية معرفتهم بالجهاز، فقالوا إن الجهاز كان يعمل باللغة الإنجليزية، وهم لم يعرفوا الإنجليزية من قبل، مما دفعم إلى تعليم أنفسهم اللغة أولاً، ومن ثّم بدأوا في التعرف على الجهاز بأنفسهم، يتابع ميترا في حديثه بأن تلك المرة الأولى في حياته التي يواجه فيها مبدأ “التعلم الذاتي”.
كرر ميترا التجربة في العديد من المناطق المختلفة، ليستنتج نفس النتائج في كل مرة، وهي أن أطفال في عمر الخامسة والسادسة بإمكانهم الوصول إلى مهارات سكرتيرة في مكتب في شركة في الغرب بدون أن يتم تعليمهم المهارات التقنية للحاسوب، وبدون أن تكون لهم خلفية عن اللغة الإنجليزية.
تم تكرار التجربة باختبار الأطفال في معلومات عن الحمض النووي DNA بترك ميترا للجهاز وعليه كل الملفات التي تم تحميلها من الإنترنت عن الحمض النووي، ولكن باللغة الإنجليزية، وأخبر الأطفال أن عليهم الإطلاع عليها، فأبدى الأطفال استنكارهم من فهمهم لتلك الكلمات المعقدة بإنجليزيتهم البسيطة، وتلك المخطوطات والمعلومات الكيميائية، إلا أن ميترا استمر في إجراء التجربة، وتركهم مع إحدى المساعدات من نفس القرية في عمر الثانية والعشرين، وأخبرها أنها يجب أن تتبع معهم طريقة الجدات المسنات في التربية، ألا وهي التهليل للطفل وتشجيعه على أي عمل يفعله وإن كان بسيطًا، لتكون النتيجة بعد بضعة شهور، هي 30 % نسبة النجاح، وهي في نظر الأساتذة الجامعيين نسبة ضئيلة للغاية، إلا أنها بالنسبة لأطفال في هذا العمر، وتلك الظروف، وخلفيتهم اللغوية البسيطة، فإن النسبة كانت شديدة النجاح بالنسبة لميترا.
على الرغم من أن أبحاث ميترا لم تتوقف بعد، إلا أنه يريد بشدة تطبيق ذلك النظام على الأطفال، فبدلًا من الذهاب اليومي للمدرسة التي يجدها الطفل مملة، ويذهب إليها حاملًا هاتفه الذكي بيد، وكتبه بيد أخرى، لم لا نوفر للأطفال أن يكون نظام تعليمهم نابع من مخيلتهم وتأملاتهم، وأن يتم تعليمهم وفقًا لما يرغبون هم في تعلمه، كما يشجع ميترا على التعليم المنزلي بشدة، فهو يرى أنه يمكننا تعليم أطفالنا في أي مكان غير المدرسة، لهذا فهو يرغب في تكوين نظام تعليم موازٍ للنظام المدرسي، نظام أسماه هو “مدرسة في السحاب”، أي في كل مكان وأي مكان.
نون بوست