عالم رياضيات: مصدر المعادلات ما زال لغزًا محيرًا
في مقابلة مطولة مع مجلة شبيغل الالمانية
تحدث كين اونو عالم الرياضيات الاميركي من اصل ياباني متخصص بنظرية الأعداد في مقابلة مطولة مع مجلة شبيغل الالمانية عن قضايا عديدة بينها المواهب الشابة في الرياضيات والانتحار في الثقافة اليابانية والوحي الالهي.
كين اونو عالم رياضيات اميركي من اصل ياباني متخصص بنظرية الأعداد، وهي إحدى فروع الرياضيات الصرفة، فاز بجوائز اكاديمية وتقديرية عديدة، منها جائزة رئاسية قدمها له الرئيس بيل كلنتون عام 2000.
تحدث اونو في مقابلة مطولة مع مجلة شبيغل الالمانية عن قضايا عديدة بينها المواهب الشابة في الرياضيات والانتحار في الثقافة اليابانية والوحي الالهي.
حيث قال اونو انه يتلقى كل شهر رسائل يقول اصحابها انهم تمكنوا من حل مسائل رياضية ما زالت بلا حل وانه يتراسل الآن مع سجين في ولاية الينوي لن يرى نور الشمس بعد اليوم، لكنه عالم رياضيات لامع.
العثور على مواهب رياضية
وأشار اونو إلى أن بالإمكان اكتشاف مواهب شابة في الرياضيات من خلال هذه المراسلات وانه اطلق مبادرة اسمها “روح رامانوجان” تكريما للرياضي الهندي سرينفاسا رامانوجان الذي حقق عددا من الاكتشافات الرياضية المذهلة دون ان يتلقى أي تعليم نظامي في المعاهد التقليدية.
وقال ان الهدف من المبادرة هو العثور على مواهب رياضية مماثلة وهي مبادرة مفتوحة لأي شخص في العالم. وأكد اونو العثور على تلميذ في قطر عمره 12 سنة لكنه ذو قدرات مذهلة. واضاف “ان لدينا آمالا عريضة”.
واوضح عالم الرياضيات الاميركي ان تركة رامانوجان الذي توفي قبل نحو 100 سنة مهمة اليوم أكثر من أي وقت مضى لا سيما وانه اكتشف معادلات قبل عشرات السنين على ادراك اهميتها. وكان معترَفاً به في زمن حياته حيث انتُخب عضوا في الجمعية الملكية البريطانية كأول عالم من الهندي يُقبل عضوا فيها. ولكن اهمية اكتشافاته الرياضية بدأت تتضح في حوالي عام 1970 ، بعد نحو نصف قرن على وفاته. وحتى اليوم يُشار اليه سواء في العمل على النظرية الحسابية أو النظرية البيانية. وحتى توزع الثقوب السوداء يمكن ان يُعزا الى استخدام افكار رامانوجان ، الى جانب استخدام معادلاته في الكيمياء ايضا.
ولذلك اعرب اونو عن اقتناعه بأن الأشخاص الاعتياديين يستطيعون ان يتعلموا من رامانوجان ولهذا السبب انتجت هوليود فيلماً عنه يحمل رسالة مفادها ان الموهبة يمكن ان توجد في أي مكان.
حياة رامانوجان
وكان رامانوجان فشل في امتحاناته المدرسية وقطع دراسته الجامعية وكان من المرجح ان ينتهي به المآل موظفاً في دائرة رسمية هندية. وقال اونو في هذا الشأن ان نظام التعليم الجامد هو الذي كاد يدمر عبقرية رياضية مثل رامانوجان. ورأى ان نظام التعليم الاميركي الآن حتى أكثر جمودا بكثير حيث يُختبر الطلاب المرة تلو الأخرى وبعض المعلمين لا يعلّمون طلابهم شيئا اليوم سوى عبور هذه الامتحانات. والذين يقطعون دراستهم مثل رامانوجان هم اول من يخسرهم نظام جامد كهذا.
وقال اونو ان رامانوجان قام بدور مهم في حياته، موضحاً ان والده الذي كان استاذ رياضيات هاجر الى الولايات المتحدة وان والديه كانا يعلّمانه وشقيقيه الآخرين لقبولهم في المعاهد التقليدية وليكونوا ناجحين مثل ابيهم. ومع ذلك كان رامانوجان الطالب الفاشل في الكلية و كان والده من اكبر المعجبين به.
وقال اونو ان قصة رامانوجان ساعدته على الافلات من جو البيت الخانق بسبب الحاح الوالدين عليه. واضاف انه حين اشار الى مثال رامانوجان سمح له والداه بالرحيل والعيش مع شقيقه سانتا الذي تخرج حديثا من جامعة شيكاغو.
ولكن حتى بعد هروب اونو من ضغط الوالدين ودراسة الرياضيات كما درسها والده كانت اصوات والديه تلاحقه “انت لست جيدا بالمستوى الكافي وسيكون الفشل مصيرك”.
اسرار تكشف للمرة الأولى
وكشف اونو لأول مرة في سيرة حياته التي تُرجمت مؤخرا الى الالمانية محاولته الانتحار في عام 1992، وهي محاولة لم يطلع عليها احد ، ولا حتى زوجته. واوضح انه ليس شخصاً انتحارياً “ولكنها كانت لحظة ضعف” تعرض لها عندما أُتيح بعد التخرج له القاء محاضرته الاولى في مؤتمر علمي عُقد في مونتانا. وكانت المحاضرة كارثة. إذ لم يكن احد في جامعة مونتانا مهتماً بنظرية الأعداد وحاول نيل اعجاب الحاضرين بالتفاصيل التي كان يفتخر بها. وبعد عرض السلايدات الثلاث الاولى لم يقل اي شيء مهم للحاضرين. حيث نام بعضهم اثناء المحاضرة. والأدهى من ذلك ان استاذا عصبي المزاج توجه اليه وقال ” ضيعت وقتي”.
وروى اونو انه بعد ذلك قاد سيارته وهو يشعر بالكآبة والفشل ثم رأى شاحنة قادمة من الاتجاه الآخر وقرر الاصصدام بها وانهاء حياته. “وبدأ سائق الشاحنة يزمر وما أتذكره بعد ذلك هو أن سيارتي كانت على كتف الطريق على الجانب الذي كنتُ سائرا فيه وماسحة الزجاج الأمامي تتحرك يميناً ويساراً. هل كان ذلك بعد دقيقة أو 20 دقيقة؟ لا أدري في الحقيقة”.
وتابع اونو انه بعد ان نشر سيرة حياته التي يروي فيها هذه الواقعة، القى شقيقه سانتا الذي كان رئيس جامعة بريتش كولومبيا الكندية كلمة تحدث فيها عن محاولاته للانتحار ، المحاولة الأولى حين كان لم يزل يعيش مع والديه والثانية حين كان استاذ الكيمياء الحياتية في كلية جونز هوبكنز الطبية رغم انه كان متفوقاً في دراسته واختصاصه. ولكنه كان يُعد “الخروف الأسود” في العائلة لأنه لا يعمل في المجال النظري وبالتالي كان استاذا من الدرجة الثانية بنظر والده. وقال اونز ان شقيقه سانتا “لن يشفى من هذه العقدة ابدا”.
ثقافة الانتحار… مقبولة
واعتبر اونو ان الغريب في الثقافة اليابانية ان الانتحار شيء مقبول “وان والديّ كانا سيُفجعان لو نجح واحد منا في محاولاته ولكنهما كان سيقبلان بذلك”.
وأضاف “أنا أحب والديّ رغم اني كنتُ غاضباً عليهما في النصف الأول من حياتي. وفهمتُ أخيرا ما معنى ممارسة الرياضيات حقاً. وهنا ايضا اتضح ان رامانوجان كان ملاكاً حارساً لي”. وروى اونو انه ذات مرة كان يقلّب قنوات التلفزيون لا على التعيين حين توقف عند فيلم اسمه “رسائل من موظف مكتبي هندي” وفيه كان رامانوجان ، الرجل الذي كان والد اونو يتحدث عنه باعجاب شديد. حيث رأى انه لولا تذكيره بالرياضي الهندي لانتهى به المآل موظفا في شركة تأمين.
وقال اونو انه “سيبدو من الاستعلاء ان اقارن نفسي برامانوجان ولكني اعتقد ان طريقتي في ممارسة الرياضيات على الأرجح لا تختلف كثيرا عن طريقته. وأتخيله جالسا امام بيته في الهند أو على الحجر البارد لأرض المعبد يؤدي عمله الرياضي في غيبوبة من نوع ما ، عيناه مغمضتان ربما لطرد كل المؤثرات الخارجية، وبين حين وآخر يكتب اشياء على بلاطة، وحين يتوصل الى معادلة يسجل اكتشافه في دفتره”.
رامانوجان صاحب موهبة تنبؤية
واشار اونو الى انه يمارس الرياضيات بطريقة مماثلة حيث “في بيتي لا تجد أكثر من كتابين أو ثلاثة كتب في الرياضيات، لا دفاتر. ونصف الوقت امارس عملي على الاريكة في غرفة المعيشة ممددا وعيناي مغمضتان ، وكأني نائم تقريباً. وتمر ساعات اترك افكاري تسرح خلالها”.
وقال ان مصدر هذه الأفكار وكتابة المعادلات دون شرح أو استنتاج أو برهان وكأنها نزلت من السماء ما زال لغزا حتى اليوم. وعلى سبيل المثال ان رامانوجان كتب معادلات لم تكن نتيجة حساب لأن طرق الحساب المطلوبة لاستنتاج هذه المعادلات لم تُكتشف إلا بعد 70 أو 80 سنة على وفاته. “ولا بد انه كان صاحب بصائر عميقة ولن نفهم بصورة كاملة أبداً كيف توصل الى هذه الاكتشافات”.
وتساءل اونو “من أين تأتي هذه الافكار؟ أي هي قوة خارقة للطبيعة؟ غامضة؟ إلهية؟ تستطيع ان تفهم ذلك بالطريقة التي تعجبك وأنا اعتقد ان العقل البشري يفعل اشياء كثيرة يمكن ان نسميها إلهية”.
وقال اونو ان جمال معادلات رامانوجان المليئة بالمتغيرات يكمن في أهميتها للرياضيات. كما كان رامانوجان صاحب موهبة تنبؤية بطريقة ما.
ونوه اونو بأن رامانوجان “وإن لم يتنبأ بالثقوب السوداء مثلا لكنه كان يعرف على نحو ما اشياء اصبحت بالغة الأهمية في نظرية الثقوب السوداء واتمنى لو كانت عندي بصيرة لمعرفة طريقته في التوصل الى معادلاته. لن تكون لي بصيرة كهذه ابدا ولكني اشعر بالامتنان للعيش في زمن اصبحنا فيه اخيرا نفهم كيف يمكن ان تكون هذه المعادلات مفيدة”.
وفي الختام علق اونو على تركة رامانوجان قائلا “ان بالامكان ان نقارن دفاتره بانجيل ناقص حيث كل فقرة تبدأ بالجملة الأولى فقط، ولا يمكن إلا ان نتكهن بمسارها اللاحق. والآن أُقيم البرهان على جميع المعادلات في دفاتره ولكن هذا لا يعني اننا نفهم لماذا كان يهتم. هل سيمنحنا هذا بصائر لمئة سنة أخرى؟ ليست عندي فكرة ولكني لا أرى تباطؤ في التقدم حتى الآن”.