أخبار منوعة

كيف يفهم الأطفال الموت؟ وكيف يمكن أن نحدثهم عنه؟

يُقدِّم فيلم “وجوه حواء الثلاثة” سرداً حقيقياً لقصة امرأة شابة (1) مصابة باضطراب الشخصية المتعددة أو اضطراب الهوية التفارقي، كما يُطلَق عليه اليوم. في أثناء العلاج، نكتشف أن جذور هذا الاضطراب تعود إلى سن السادسة عندما أجبرتها والدتها على تقبيل جدتها المتوفاة على سبيل الوداع، فكان حزنها ورعبها هو السبب في انقسامها في البداية إلى شخصيتين مختلفتين. رُبما يُمثِّل النموذج الذي قدَّمه الفيلم مثالا صارخا على الصدمة التي يمكن أن يُسبِّبها الموت للأطفال. 

ليست مواجهة الموت بطريقة خاطئة هي وحدها التي تُسبِّب أزمات واضطرابات نفسية للأطفال، لكن أيضا إبعادهم عن الحدث تماما عند وفاة أحد أفراد الأسرة، ففي أحد المراكز النفسية العاملة في ولاية كونيتيكت في الولايات المتحدة الأميركية، اتصلت إحدى الأمهات لتقول إنها تشعر بقلق شديد على ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات، فقد توفيت جدة الطفلة في الشهر السابق، وأوضحت الأم أنها تشاورت مع الطبيب حول التحدُّث مع ابنتها عن موت الجدة، لكنه أخبرها أن الأطفال في سن الثالثة أصغر من أن يذهبوا إلى جنازة لأنهم لا يفهمون الموت، لذلك أبعد الوالدان طفلتهما عن أي طقوس تخص الوفاة. لكن منذ ذلك الحين، أصبحت الفتاة الصغيرة تخشى الذهاب إلى النوم، وعندما تنام كانت تُعاني من الكوابيس، أما خلال النهار فقد كانت قلقة ومُتشبِّثة بالبالغين بشكل غير معهود.

حينما أُعطيت الطفلة شرحاً بسيطاً ومباشراً  ومناسباً لمرحلتها العمرية حول الموت، وقيل لها ما يحدث للجسد عند الموت وأنه “يتوقف عن العمل”، وتعلَّمت القليل عن نوع الطقوس التي تمارسها الأسرة بناء على دينها وثقافتها، حينها استجابت الطفلة، واستطاعت النوم جيدا، ولم تعد تعاني المزيد من الكوابيس.

“الأطفال أصغر من أن يعرفوا ما يحدث”، رُبما يهرب البالغون من التحدث مع الأطفال عن الموت بهذا المنطق، لذلك قد يُخبرون الأطفال بأن أجدادهم سافروا بدلا من إخبارهم بأنهم قد توفوا، وبسبب هذه النيَّات الحسنة الراغبة في تجنيب الصغار الحزن والألم أو الصدمة، غالبا ما يُحرَم الأطفال من حقهم في الحزن.

بداية.. لماذا من المهم أن نتحدث مع الأطفال عن الموت؟

خلال مراحل الطفولة المُبكرة، قد لا يفهم الأطفال أن الموت دائم ونهائي ولا رجوع فيه، لكنهم يدركون أن شيئا محزنا للغاية قد حدث. الكذب على الأطفال أو إخفاء الحقيقة يُزيد من قلقهم، لأنهم يدركون جيدا ما يحدث حولهم، ويراقبون الكبار بشكل مُكثف مما يجعل خداعهم صعباً .

عندما لا يُعطَى الأطفال في أي عمر تفسيرات مناسبة لحدث الموت، فإن خيالهم القوي سيملأ الفراغات ويُكمل المعلومات التي حصلوا عليها من ملاحظتهم للمحيطين بهم بأشياء أسوأ بكثير من الحقيقة البسيطة. على سبيل المثال، إذا لم يفهموا حدث الموت ومفهوم “الدفن”، فقد يصنعون صورا مُخيفة لأحبائهم الموتى وهم مدفونون أحياء، يلهثون بحثا عن الهواء ويحاولون الخروج من الأرض. لذلك من الأفضل إعطاؤهم فكرة واضحة عما يجري بدلا من تركهم لتخيُّلاتهم.

يحتاج الأطفال إلى معرفة ليس فقط ما يحدث للجسد عند الموت، بل يحتاجون أيضاً إلى تفسير ما يحدث للروح، بناء على المعتقدات الدينية والروحية والثقافية للعائلة. من الضروري تقديم وصف لكل شيء سيشاهدونه ويختبرونه على الأرجح، ويجب أن يكون شخص بالغ مسؤول على الأقل حاضرا لدعم الطفل أثناء الجنازة وأي طقوس أخرى.

كيف يفهم الأطفال فكرة الموت؟

” alt=”” aria-hidden=”true” />

عادة ما ينمو لدى الأطفال وعي خاص بشأن الموت بمجرد مصادفتهم لحوادث الموت الوهمي في القصص الخيالية والألعاب والتلفزيون. يتظاهر الأطفال بالموت في الألعاب، ويقتلون “الأشرار” في ألعاب الفيديو، وغالبا ما يتحدثون عن “الموت” مع أقرانهم عندما يتناقشون حول ألعابهم أو أفلام الرسوم المتحركة المُفضلة لديهم.

نتيجة لذلك، عندما يموت أحد أفراد الأسرة، يتفاعل الأطفال بشكل مختلف عن البالغين. عادة ما يرى الأطفال في سن ما قبل المدرسة الموت على أنه أمر مؤقت، فالطفل يعتقد أن مَن يموت سيعود مرة أخرى للحياة، وهو اعتقاد عزَّزته شخصيات كرتونية ماتت وعادت للحياة مرة أخرى. هذا ما فعله طفل، وفقا لموقع “psychcentral”، يبلغ الرابعة من عمره، فحينما أُخبِر بوفاة والده، استمر في السؤال: “متى سيعود؟”.

رد الفعل هذا رصدته أيضا الدراسات الأولى التي أُجريت لتحديد مفهوم الأطفال عن الموت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، حيث فقد حينها العديد من الأطفال أحد والديهم. بدأ الباحثون في إجراء مقابلات مع الأطفال منهجيا، وسألوهم عمّا يعتقدون أنه يحدث عندما يموت شخص ما. وجد الباحثون أن الأطفال الصغار جدا يفهمون الموت على أنه حالة شبيهة بالنوم يمكن للمرء أن يستيقظ منها، كما في الحكاية الخيالية “الجمال النائم” (Sleeping Beauty)، ويرى الأطفال الأكبر سِنًّا أن من الممكن تجنُّب الموت من خلال التحلي بالذكاء أو الحذر، أو الاستعانة بطبيب جيد، فالموت في نظرهم ليس أمرا حتميا.

يبدأ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5-9 سنوات في التفكير أكثر مثل البالغين في الموت، ومع ذلك يظل اعتقادهم أنه لن يحدث لهم أو لأي شخص يعرفونه، وما يزيد من صدمة الطفل وارتباكه عند وفاة أخ أو أخت أو أحد والديه هو أن أفراد الأسرة الآخرين يُصبحون غير مُتاحين لتخفيف الألم عنهم، فهم قد يتأثرون بالحزن لدرجة أنهم قد يُصبحون غير قادرين على تحمُّل المسؤولية العادية لرعاية الطفل.

حسناً، كيف نخبر الأطفال بحدث الوفاة؟

تُخبرنا هذه الحقائق أن البالغين يحتاجون إلى فهم الطريقة المناسبة لإبلاغ الأطفال بحدث الموت، بالإضافة إلى معرفة ردود الأفعال المتوقَّعة من الأطفال في مختلف الأعمار ومراحل النمو. بداية، إذا كان ذلك ممكنا، يجب أن يُخبر الطفل بنبأ الوفاة الشخص الأقرب إليه، حتى لو كان هذا الشخص أحد الوالدين الذي يشعر بالحزن أيضا. لا بأس إذا كان الحزن يبدو على الشخص أو كان يبكي، لكن لا ينبغي أن يكون مرتبكا لدرجة ألا يتحكم في عواطفه، لأن هذا قد يُثير قلق الطفل أكثر خلال الموقف المخيف والصعب بما يكفي.

يمكن أن يؤدي إخفاء حزنك إلى جعل الأطفال يعتقدون أن الحزن الذي قد يشعرون به أمر سيئ. ومع ذلك، حاول ألا تدع الطفل يراك في أكثر لحظاتك حزنا، حيث قد يبدأون في القلق عليك أو يشعرون بعدم الأمان.

 

لا يوجد وقت مثالي ينبغي أن يعرف خلاله الطفل نبأ الوفاة، لكن يجب إخبار الأطفال في أسرع وقت ممكن، في حدود المعقول. انتظر حتى نهاية اليوم الدراسي مثلا، ثم أخبره. الاعتبار الرئيسي هنا هو ألا يسمع الطفل النبأ بشكل غير متوقَّع من مصدر آخر، أو أن يجد نفسه فجأة ودون أدنى تمهيد سابق وسط مجموعة من البالغين يقفون حوله وهم يبكون أو في حالة صدمة، الأمر الذي قد يكون مخيفا جدا بالنسبة له.

يجب أن تُخبر طفلك بنبأ الوفاة في مكان يسمح له أن يُبدي رد فعله بحرية أيًّا ما كان، لذلك ينبغي ألا يكون هذا مكانا عاما. عند إخبار الطفل بالنبأ حاوِل استخدام لغة مباشرة، وكن مستعداً لإعطاء شرح موجز لكيفية أو سبب حدوث الوفاة، لأن الأطفال سيكون لديهم فضول لمعرفة المزيد من التفاصيل. ومع ذلك، يجب أن تكون حريصا، فليس عليك الخوض في الكثير من التفاصيل، فقد يؤدي تقديم الكثير من المعلومات للأطفال إلى إرباكهم. ابدأ فقط بالحد الأدنى من المعلومات، ثم أضِف المزيد بناء على الأسئلة التي قد يطرحونها.

تختلف الكلمات التي تختارها تبعا لعمر الطفل ومرحلة نموه، لكن الخبراء يتفقون على أنه بغض النظر عن عمر الطفل، هناك إرشادات معينة عليك الالتزام بها، مثل: ألا تستخدم التعبيرات المُلطّفة، فتجنَّب عبارات مثل “رحل”، “فقدناه”، لأن الأطفال يميلون إلى أن يكونوا حرفيين للغاية، وهذا النوع من اللغة الغامضة يتركهم قلقين وخائفين ومرتبكين في كثير من الأحيان، أو بالعكس، قد يقودهم إلى الاعتقاد بأن المتوفَّى سيعود وأن الموت ليس دائماً.

لقد عرف الطفل الخبر، كيف نتعامل معه بعد ذلك؟

كما أشرنا، يجب أن يكون الآباء على دراية بردود الفعل الطبيعية التي قد يقوم بها الأطفال عند موت شخص في الأسرة، وكذلك يجب أن يتعرَّفوا إلى العلامات التي قد تُعبِّر عن أن الطفل يواجه صعوبة في التعامل مع الحزن.

من ردود الفعل الطبيعية مثلاً خلال الأسابيع التالية للوفاة أن يشعر بعض الأطفال بالحزن الشديد، أو أن يُصِرّوا على الاعتقاد بأن فقيد العائلة لا يزال على قيد الحياة. ومع ذلك، فإن الإنكار طويل المدى للموت أو تجنُّب الحزن يمكن أن يُشير إلى أن هناك أمرا غير صحي يجب مُعالجته حتى لا يؤدي لاحقا إلى مشكلات أكثر خطورة.

كذلك إذا كان الشخص المتوفَّى يُمثِّل عاملا أساسيا لاستقرار عالم الطفل، فقد يكون الغضب أحد ردود الفعل المُحتملة، وقد يظهر الغضب في اللعب الصاخب، أو الكوابيس، أو التهيج، أو مجموعة متنوعة من السلوكيات الأخرى. غالبا ما يُظهِر الطفل غضبه تجاه أفراد الأسرة الباقين على قيد الحياة. أيضا بعد وفاة أحد الوالدين، سيتصرَّف العديد من الأطفال بشكل أصغر مما تفرضه مراحلهم العمرية. قد يصبح الطفل أكثر طفولة مؤقتا، ويحتاج إلى الاهتمام والعناق حتى وإن لم تكن هذه هي عادته، قد يطلب طعاما غريبا، وقد يُبلِّل سريره ليلا.

كثيراً ما يعتقد الأطفال الصغار أنهم سبب ما يحدث من حولهم. لذلك قد يعتقد الطفل الصغير أن أحد الوالدين أو الجد أو الأخ أو الأخت قد مات لأنه تمنى ذلك عندما كان غاضبا منه، فيشعر الطفل بالذنب أو يلوم نفسه لأن الرغبة العابرة قد تحقَّقت، وفي كل تلك الأحوال يجب استيعاب مشاعر الطفل، وتوضيح ما يحدث له بلغة مناسبة لعمره، والصبر على أي تغير في سلوكه لحين تجاوز الفترة الحرجة.

كذلك ينبغي عدم إجبار الطفل الذي يخاف من حضور جنازة على الذهاب، لأن الطفل لو لم يكن مستعدا فسيُشكِّل له هذا الأمر في ذاته صدمة. أيضا من الأشياء التي يمكن تعليمها للأطفال أن الصلة بالمتوفَّى لم تنقطع تماما، فقط تغيرت صورتها، يمكن إخبار الطفل أنه يُمكنه تذكُّر لحظاته الجميلة مع الشخص الراحل والدعاء له أو إشعال شمعة أو مشاهدة الصور التي كانت تجمعه به.

يجب السماح للأطفال بالتعبير عن مشاعرهم بشأن فقدهم وحزنهم بطريقتهم الخاصة. من المُرجَّح أن يُظهِر الأطفال مشاعر الحزن بشكل متقطع على مدى فترة طويلة من الزمن، خاصة خلال المناسبات مثل الأعياد الدينية والمناسبات العائلية.

كل هذه الأمور طبيعية ولا تستدعي القلق، ولكن في المقابل هناك علامات تُشير إلى أن الطفل يُعاني من مشكلة ويحتاج إلى المساعدة، مثل حدوث فترات طويلة من الاكتئاب يفقد خلالها الطفل الاهتمام بالأنشطة والهوايات والأحداث اليومية، وعدم القدرة على النوم، وفقدان الشهية، والتصرُّف بشكل أصغر من سِنّه لفترة طويلة من الوقت، والإفراط في تقليد الميت، والاعتقاد بأنه يتحدث أو يقابل فرد الأسرة المتوفَّى لفترة طويلة من الزمن. كذلك علينا الانتباه حال أصدر الطفل تصريحات متكررة عن الرغبة في الموت واللحاق بالمتوفَّى، أو أُصيب بالعزلة عن الأصدقاء، وأخيرا حال الانخفاض الحاد في الأداء المدرسي أو رفض الذهاب إلى المدرسة. إذا استمرَّت هذه العلامات السابقة لفترة طويلة، فقد يُشير هذا إلى أن الطفل يحتاج إلى مساعدة متخصصة.

ختاماً عند التحدُّث عن الموت، ابدأ من النقطة التي يقف عندها الطفل، ويُمكنك معرفة هذا من خلال سؤاله: “ماذا تعتقد أنه يحدث عندما يموت شخص ما؟”. لا تُمطره بالكثير من المعلومات، فقط استمع إليه بعناية، وصحِّح الأفكار الخاطئة التي تُثير قلقه، وقدِّم معلومات واضحة وصادقة، فأفضل طريقة لمساعدة الأطفال على التعامل مع الموت هي توفير المعلومات الصادقة المناسبة لمستوى نموهم، إذ يختلف ما تقوله لطفل يبلغ من العمر 3 سنوات عمّا تقوله لطفل يبلغ من العمر 13 عاما. يفهم المراهقون المعنى الكامل للموت، لكن هذا لا يعني أنهم قادرون على التعامل مع الاضطرابات العاطفية التي يُسبِّبها حدث الموت، لذلك يحتاجون إلى استماع البالغين وتقديم المساعدة لهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock