يوسف عوض العازمي يكتب: التأريخ الشفهي .. إستدراكات وإنحرافات !
” ويجب ألا نسلم بكل ما يقوله الضيف، إِذْ لا بد من تقييم أهمية المقابلة الشفهية تاريخياً، والنظر إلى قوتها وترابطها، وعدم تناقضها، وعدم وجود التحيز، ومقارنتها بالمعلوم من المصادر التاريخية الأخرى، إِذْ قد يكون الضيف ذا ذاكرة ضعيفة أو تكون رواياته ضبابية المحتوى “
( محمد عبدالرزاق القشعمي ) (1 )
من القواعد التي تبنى عليها كتابة التاريخ وتوثيقه هي قاعدة التأريخ الشفوي ، وهو منظر مهم من مناظر التاريخ بأقسامه المختلفة ، وهناك من يعتقد بأن التاريخ الشفوي هو المدخل الأهم لمعرفة ماهية الحدث كون أن المؤرخ المستعين بأحد عناصر الحدث وقام بتوثيق شهادته قد وصل إلى أقرب اليقين ، وماتزال هنالك أحداث تاريخية في التاريخ الحديث والمعاصر يغلفها الجدل ويحكمها الشك قبل اليقين ، هنا تكمن خطورة الإعتماد على مصادر ليست على قدر كاف من الثقة المأمولة ، وهنا بيت القصيد لمن يخفض درجة الثقة في التأريخ الشفوي !
قبل سنوات فكرت بأخذ شهادات لأناس معاصرين شهدوا حدثا” تاريخيا” مهما” ، وكنت أعتقد بسذاجة المبتدئ بأن الثقة كافية حتى اتوصل للثقة اليقينية لهذه الشهادات المهمة ، ومع بداية إجراء أول حوار ، وكانت الخطة الموضوعة أن أراجع تسجيل الحوار مرة اخرى بيوم آخر بصحبة من تحاورت معه او الشاهد على الحدث ، ومن ثم تفريغ التسجيلات على الورق ، الملفت ان كثيرا” مما قيل في الحوار الأول يتم نقضه بالمراجعة وبأعذار مختلفة أهمها إشتباه الخلل في مصداقية الشاهد ، مما اعطاني فكرة كافية عملية حول اهمية وصعوبة التيقن في التأريخ الشفهي .
وفي عصرنا الحالي نجد ان هناك زخما” في البرامج الحوارية التي تعنى بتقديم تأريخا” مشفوعا” بشهادة أحد عناصر أو اطراف في الحدث قيد البحث ، وفي أحد هذه البرامج ذائعة الصيت كانت هناك حلقات حوارية مع احد الشخصيات المثيرة للجدل ، وبإحدى الحلقات تطرق ذات الشخصية لحدث مضي عليه أكثر من اربعة عقود من الزمان وكان هو شخصيا” احد اطراف هذا الحدث ، و خلال حديثه ناقض بشكل شبه كامل حديث له قبل سنوات بإحدى النوافذ المرئية ، وأستشعرت بأن مثل هذه الشخصية لاينفع معها برامج تفتح الصناديق السود او البيض !
وفي مقدمة كتاب تاريخ الطبري _ تاريخ الأمم والملوك كتب المؤلف مايلي : ” فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ، أو يستشنعه سامعه ، من أجل انه لم يعرف له وجها” في الصحة ، ولامعنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا ، و إنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ” ( 2 )
ومازلت مع المقدمات إذ سأنقل إقتباس من الورقة المقدمة لمؤتمر يختص بالتاريخ الشفوي حيث كتب : ” تقع الإشكالية المعاصرة للتاريخ الشفوي في السؤال الذي بدأ صوغه في الغرب أولا” ، بعد الحرب العالمية الثانية ، وهو ” من يؤرخ وكيف يؤرخ للذين لاتاريخ لهم ؟ ( المقصود هنا من ليس لهم تاريخ مكتوب ) المقصود أي للذين عانوا وشردوا ، وخضعوا للعذابات أو الذين قاوموا ” ( 3 )
وفي مقال سابق كتبت د. أمينة عامر : تمثّل معايير البحث ومنهجية إجراء المقابلات إشكالية أخرى ذات علاقة مباشرة بمسألة الذاكرة ، فلابد من طرح التساؤلات حول كفاءة ذاكـرة أولئك الذين يدلون بشهادتهم للتاريخ ، وأيضًا المقارنة بين المصادر المكتوبة والشفهية، وعما إذا كانت المقابلة مصدرًا شفهيًا، أم أنها في حد ذاتها تاريخ تفسيري أو تأويلي.
ومن المطروح للمناقشة في هذا السياق أنه ينبغي للمؤرخين المعتمدين على التاريخ الشفهي الانتباه إلى ثلاثة محاور واضحة وأساسية:
1-الدلالات اللغوية خلال المقابلة.
2-الدلالات الأدائية خلال المقابلة.
3-العلاقة أو الرابطة بين وعى الفرد والوعى الاجتماعي للمؤرّخ .
وهنا لا يمكننا إغفال تأثير الثقافة والإيديولوجيا العامة السائدة في تشكيل وعى وذاكرة الفرد (سواء المتحدّث أو المتلقّي) ( 4 )
التاريخ الشفهي او الشفوي مرتبط بعدة علوم كالوثائق بأنواعها ومناهج البحث التاريخي ، وعلم الرجال والإجتماع وعلم النفس ، والدقة هي التي تعتبر مفترق طرق في هذا التاريخ الصعب تدوينه والإلتجاء إليه ، وكثيرا” مايتم إستخدام هذا التأريخ بشكل لايتسق والموضوعية حيث يجير هذا التأريخ لتزوير حقائق عن احداث وقعت وغموضها يغلب وضوحها ، حيث يتم أخذ شهادات من أناس لايتصفون بالثقة لأسباب الخوف او الملاحقة الأمنية أو التقهقر الإجتماعي ، أو حتى وجود آيديولوجية معينة تضع الشاهد تحت ضغطها النفسي ، لذا من الصعب ممارسة هذا الأمر إلا بعد جهد عسير وتدقيق دقيق ، وبعدها عسى أن تصل المصداقية لدرجة مقبولة ومعقولة ، على إعتبار شبه الإستحالة للوصول لشهادة حيادية منصفة تماما” بناء على ماسبق ذكره ، وعلى اية حال يبقى الخير في البشر ولو خليت خربت ، لذلك في هذا المقال نستدرك معالم هذا العلم المتفرع عن علم التاريخ ، ونشرح بتبسط ماهياته ، و نسلط الضوء على بعض إنحرافاته ، ذلك لأن الحديث عاما” حول هذا الأمر أ وليس خاصا” لخصوصية معينة ..
يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
1_ مقال : التاريخ الشفهي وأهمية ، الكاتب : محمد عبدالرزاق القشعمي : صحيفة الجزيرة / المملكة العربية السعودية ، في 12 سبتمبر 2015 م
2 تاريخ الطبري تاريخ الأمم والملوك ، المجلد الاول ، محمد بن جرير الطبري ، الناشر : دار الكتب العلمية _ بيروت ، الطبعة الرابعة سنة 2008 م ، المقدمة ص 13
3 _ مؤتمر : “التاريخ الشفوي: المفهوم والمنهج وحقول البحث في المجال العربي” ، عقد في بيروت _ لبنان في الفترة من 21 إلى 23 فبراير 2014 م ، تنظيم : المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات – فرع لبنان
4 _ دورية : Cybrarlans Journal ( دورية ألكترونية علمية محكمة صادرة عن البوابة العربية للمكتبات والمعلومات ) العدد 5 ، يونيو 2005 م . مقال : التاريخ الشفهي : تاريخ يغفله التاريخ _ د. أمينة عامر / مدرس الوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة