أسماء السكاف يكتب: بسكوت الهنا
أدخلت المعمول الذي أصنعه لأول مرة إلى الفرن ومع رائحته الزكية عادت بي الذاكرة إلى فترة
ما بعد التحرير مباشرة حين جلسنا في المنزل ثلاثة أشهر متواصلة لم نخرج مطلقا خارج عتبة الباب بسبب الدخان الملوث المؤذي بعد أن أحرق الغزاة آبار النفط وأحالوا السماء لسوداء معتمة (بعز) النهار.
كان عمري ثلاث سنوات حينها وكل ما أذكره عن تلك الفترة لعبٌ ومتعة وشجرة جميلة ضخمة جداً (في عيني حينها) كانت في صالة المنزل.
كنا نعدها بستاناً نذهب إليه أحيانا لنأكل بظل شجرته، ووجباتٍ تُقدم لنا أنا وأخَوَيَّ بصحون الألعاب البلاستك الملونة، ورحلاتٍ إلى الشاطئ للعب والاستمتاع بمياه البحر (البانيو)، وبعض الألعاب الحركية الممتعة والخيم المنزلية والمخابئ.
أسمع أمي اليوم بعد أن كبرنا تُحدثنا كم كانت فترة صعبة ومُملة وطويلة وشاقة خصوصا أن عمل والدي
تضاعف فصار يخرج من السابعة صباحا إلى آخر الليل بالكاد نراه، ولا هاتف عندنا لنتواصل مع أحد، ولم يكن أحد من الجيران قد عاد بعد لنتواصل معه أو نزوره في عمارتنا الصامدة إلى الآن على شارع البلاجات مقابل مطعم الصنوبر حاليا، صُدمنا واستغربنا من كلامها فكل ما نذكره كان لعباً وتسليةً واستمتاعاً وحكاياتٍ كثيرة كثيرة نسمعها من ماما قبل النوم.
ونحن الآن في الحجر الصحي مرةً أخرى ولكنني أمٌ هذه المرة، قفزت هذه الذكريات التي لم أكن ألحظ أو أدري بوجودها إلى رأسي وخرجت من العقل الباطن بكامل كامل تفاصيلها وحتى بألوانها وروائحها.
ومع رائحة (معمولي) أحسست بطعم (بسكوت الهنا) الذي كنا نصنعه حينها، اسم أطلقته أمي على الكعك الذي
نصنعه معاً أنا وأمي وأخَوَيَّ وحتى مولودنا الجديد الذي وُلد في أول أيام التحرير كان يشارك بصوته معنا، لازال طعم (بسكوت الهنا) في فمي وحتى طريقة صنعه، أذكر تماما الأيدي الصغيرة التي تضع الدقيق والسكر وتمزج وتخلط بعشوائية ثم تُشَكِل شكل الوردة لتناسب بستاننا الذي نذهب إليه (خيالاً).
ثلاث كراتٍ صغيرة من الخليط نلصقها ببعضها ونخبزها فتلتصق أثناء الخبز لتشكل وردةً بثلاث بتلات.
نجلس أمام الفرن على سجادة صغيرة ننتظره حتى (يَزهَّر) لونه فنخرجه ونأكله ونخبئ جزءاً لوالدي.
تذكرت أيضاً القصص التي قرأناها ونظرنا إليها في تلك الفترة، تفاصيل لم أُدرك يوماً أنها مطبوعة ومحفورة في عقلي وذاكرتي بهذا القدر من التركيز والتفصيل.
كل ما أدركته الآن في الحجر الصحي الكوروني و وعيته وتيقنت منه بأن تلك الفترة أثرَّت بشكلٍ أو بآخر على شخصيتي وعلاقتي بأمي وأخوتي وتعلقي بهم دون أن أدرك، وكأنها منحتني جذوراً إضافية تثبتني كل ما هبَّت أو عصفت ريح أو عاصفة في حياتي.
أنا اليوم ممتنة للسيدة الأولى في حياتي بطريقةٍ لا أستطيع التعبير عنها كتابةً، وكل ما أرجوه الآن وأتمناه هو أن أكون جزءاً مما كانت عليه أمي من أمومة فطرية ذكية.
أمي تعرف بالفطرة والقلب متى تكون (ماما) فتغدق الحنان والأحضان، ومتى تكون صديقة فتمزح وتضحك وتشارك ومتى تكون صارمة فتغضب وتُعاقب وتُؤدب.
أدامك الله تاجاً لرؤوسنا يا مصدر السعادة والهنا وحفظ الله جميع الأمهات بحفظه.
كتبته/ أسماء السكاف
في ليلة العيد الغريب الجديد في الحجر المنزلي
23/5/2020