كتاب أكاديميا

محمد بن عبد الله الزهراني يكتب: البحوث المختلطة

يشير الأدب البحثي بأن البحوث المختلطة Mixed methods ظهرت في الثمانينات بشكل ممنهج ومنظم سواء في دراسات علم الاجتماع، أو التمريض، أو التقويم، أو الإدارة، وحتى في التربية. وقد سبق ذلك التاريخ العديد من المحاولات التي مهدت لظهور البحوث المختلطة كدراسة ((Le Play,1855 في تقصي فقر العائلات في أوروبا حيث استخدم الأساليب الإحصائية والبيانات النوعية المدونة من الملاحظات لاستكشاف وفهم الظاهرة.  أو محاولة (Campbell & Fiske, 1959) لاستخدام مصادر متعددة لقياس الصدق في البحوث الكمية في الدراسة الواحدة التي أسماها Multitrait، والذي أُطلق عليه لاحقاً في البحوث النوعية (التعدديةTriangulation ) لتحقيق الموثوقية Webb et al. (1966). وأيد (Denzin,1978) الدعوة لتعدد جمع مصادر المعلومات الكمية والنوعية في الدراسة الواحدة، كما وجدت دعماً مماثلاً من العالم (Patton,1980) الذي اقترح خلط المنهجيات وطور أشكال له لتوضيح ذلك الربط بين المنهجيات. وفي عام 1973، ربط العالم Sieber بين بيانات البحوث الكمية وبيانات البحوث النوعية. إلى أن وصلت في التوسع والإجرائية التطبيقية لها في الثمانينيات على يد عباس تشطري وتشارلز تدلي وكرزوال وكلارك اللذان صمما لها تصميمات بحثية واضحة.مرَّ تعريف البحوث المختلطة Mixed methods بعدة مراحل منذ نشأته التنظيمية في الثمانينات مرتكزاً على نقطة الاهتمام الذي تعيشها مرحلة نشأة التعريف سواء التركيز على منظور الفلسفة البحثية التي يتبناها، أو طرق جمع البيانات، أو تعدد المنهجيات البحثية أو الهدف من الخلط بين الأدوات المختلفة. وقبل الإشارة للتعريف الإجرائي يجدر توضيح أصل كلمة المختلط في اللغة العربية التي ترجم لها مصطلح Mixed. فكلمة خلط تعود للفعل الثلاثي (خ – ل – ط) والتي يشير في السياق العربي إلى المزج بين شيئين ليصبحا شيئاً واحداً؛ ولكنه ليس على مطلقه فيقال: خِلْطُ من التمر إذا تعددت أنواعه. كما أن الخليط يأتي بمعنى الشريك وعليه يقال: هما خليطان إذا أشترك مالها ولم يقتسمانه. وتشير العبارة خِلْطُ من الناس أي أصناف متعددة. وبناء على ما سبق فإن الفعل خلط ومشتقاته اللغوية تأتي بعدة معاني في اللغة العربية، من أبرزها والمتعلقة بالتسمية أعلاه هي التجاور والتقارب والتداخل وهذه أهداف من أهداف البحوث المختلطة. واللغة العربية تتسم بالشمول، والتعدد في المعاني والألفاظ الدالة على ذات المدلول ولكن هنا دعوة للمهتمين بالترجمة في مراجعة تسميات العديد من المصطلحات المترجمة ومن ضمنها “البحوث المختلطة”.أما في الاصطلاح التربوي فالبحث المختلط يعرف بأنه دمج البيانات الكمية والنوعية وتحليلها وتفسيرها في دراسة واحدة لفهم مشكلة الدراسة (Creswell,2005)؛ بينما طرح جونسون ورفاقه سؤال “ما هي البحوث المختلطة؟” على 21 باحثاً وخلصوا ب 19 تعريفاً للبحوث المختلطة اختصروها في أنه: ” نوع من أنواع البحوث الذي يدمج فيها الباحث أو الفريق البحثي المداخل الكمية والنوعية (كاستخدام وجهات النظر الكمية والنوعية، جمع البيانات، التحليل، أساليب التفسير للبيانات) لهدف التوسع والتأكيد والفهم العميق لمشكلة الدراسة” (Johnson, Onwuegbuzie, and Turner, 2007, p. 123)ومن خلال هذا التعريف يتضح أن البحث المختلط يتجاوز دور الجمع بين البيانات الكمية والنوعية في ذات الدراسة، إلى التوظيف المنطقي للدمج والربط في مراحل البحث المختلفة، وتضمن لمحة لتأسيس الفرق البحثية للقيام به.ولقد أُلفت العديد من الكتب والمقالات التي تدعو لدمج البحوث الكمية والنوعية في الدراسة الواحدة وأبرز من كتب فيها هم: في علم الاجتماع بالولايات المتحدة كتاب البحوث المتعددة لبرور وهنتر في عام 1989، وببريطانيا كتاب ربط البيانات لفيلدين وفيلدنق 1986. وفي مجال التقويم ببريطانيا المؤلفين الثلاثة الذي تعزى أهداف البحوث المختلطة لهم جرين وقراهام وقراسيلي 1989، أما في الإدارة ببريطانيا فقد برز بريمان بمؤلفاته التي منها جودة ونوعية في البحوث الاجتماعية 1992م. وظهرت بمجال التمريض أبحاث الدكتورة مورس 1991 لتستخدم البحث المختلط في التمريض. ويبرز في مجال العوم التربوية كرسول بمؤلفاته وتصميماته الشهيرة التي وضع لمسته الكمية في رسم خطوات العملية البحثية في البحوث المختلطة رغم الانتقادات الشديدة التي واجهها حول ذلك.ومن الطبيعي أن تتعدد المسميات لهذه  البحوث لتعدد المراحل التي مرت بها والتخصصات التي تناولتها ومن أبرز التسميات التي تسمت بها البحوث المختلطة: تداخل البيانات الكمية والنوعية Interrelating Quantitative and Qualitative Data ، تعدد المنهجيات Methodological Triangulation ، البحوث المتعددة المنهجيات Multimethodological Research ، دراسات النموذج المختلط  Mixed Model Studies، البحوث المختلطةMixed Method Research  الذي يعزى  لكرسول ورفاقه، وكذلك من التسميات البحوث التكاملية Integrated research ، أو البحوث الترابطية Combined Methods.وقد استندت هذه البحوث بصورة أولية عند نشأتها على الفلسفة البرجماتية Pragmatism كفلسفة بحثية تحقق لها المظلة الفلسفية البحثية. والبرجماتية مصطلح مشتق من اليونانية بمعنى الفعل “Thing and fact to do” وتركز على المنتج والمُخرج الختامي، ومدى نفعيته للناس وتسهيل حياتهم.  ويعود أول ظهور لمبادئها في أعمال العالم Charles Sanders Peirce (1839–1914)؛ ثم طورها بعده William James (1842–1910) and John Dewey (1859–1952). حيث حاول هذين العالمين وضع طريقة جديدة لفهم الحقيقة (Truth) والمعاني (Meaning) مركزين على أن الواقع هو أفضل الحلول النافعة في الوقت الراهن لمشكلة الدراسة التي تعتبر محور التركيز؛ وبهذا فإن الأهمية لنتائج العمل الملموسة ومدى لملامسة حياة المجتمع اليومية (Best, 2003, p. 111).إذاً البرجماتية تعتقد بأن الحقيقة (Truth) موجودة في النافع والمفيد وكذلك نسبية هذه الحقيقة حسب السياق التي تقع فيه لا بل اعتبرت الحقيقة غير مطلقة وغير ثابتة ومعيارية وفق للقيم الإنسانية التي تعتبر أيضا متجددة ومتطورة ومتغيرة من زمان إلى أخر ولكنها تلعب الدور الأساسي في تفسير النتائج البحثية.  وعلى الرغم من أنها حاولت الخروج من الجدل الفلسفي المجرد في شأن الوجود ونظرية المعرفة المحتدم بين الواقعيين والتفسيريين، ونقلت النظرة للوجود إلى الملموس، أو التطبيقي، أو العملي النفعي للمعرفة؛ التي اعتبرتها العمل وليس الملاحظة والاهتمام؛ ولكن هذه المعرفة غير مجردة من المعتقدات والاهتمامات الإنسانية. فترى البرجماتية الفاعلية من المعتقدات المعرفية هي مدى تطبيقها ونفعيتها للإنسانية. وقد وصف Goles & Hirschheim (2000) الوجود البرجماتي بأنه يتخذ موقفاً متوسطاً بين الوجود الوضعي والوجود التفسيري. ومن هنا فإن البرجماتية تعني التعددية (Pluralism) لكن ليس حتما كل تعددية برجماتية.وقد استمت بسمات تميزت بها عما سواها من الفلسفات البحثية حيث أتاحت الحرية في اختيار أدوات جمع البيانات، والإجراءات التي تحقق أهداف البحث بكفاءة دون النظر في قيود النموذج الفلسفي البحثي الذي تعتقد بأنه حد من فاعلية البحث للوصول لأمثل الحلول للمشكلة المدروسة. وسعت إلى تحقيق سؤالي ” ماذا” و ” كيف” بناء على ما يترتب من النتائج البحثية، وأعطت اعتبار مهم لسياقاته الاجتماعية والتاريخية والسياسية عند مناقشة النتائج وتفسيرها وتناول الظواهر ابتدأً.                                                  وقد لخص أغراض البحث المختلط قرين وقراهام وقراسيلي 1989 في خمسة أغراض رئيسية وهي: التعددية والتكامل والتطوير والمبادرة والتوسع.  فالغرض الأول الذي تحققه البحوث المختلطة هو تأكيد أو تقييم مصداقية الاستدلالات التي تم الحصول عليها من نتائج أداة بحثية واحدة تحت مسمى التعدد أو التثليث. بينما المبدأ الثاني يعبر عن التكامل الذي يشير للحصول على وجهات نظر تكاملية حول نفس الظواهر أو العلاقات لوصف أو توضيح أو تعزيز نتائج الأدوات بعضها بالبعض. وتضيف التطوير كمبدأ ثالث حيث تساهم نتائج أداة بحثية معينة في تطوير الأخرى. ويعقبه مبدأ التوسع في فهم الظاهرة من خلال الجمع بين البيانات الكمية والنوعية في الدراسة الواحدة والتغلب على جوانب القصور التي يحملها كل مدخل بحثي. وأخيرا مبدأ التعويض والمبادرة بحث تم الوصول لتوافق بين النتائج المختلفة، واكتشاف التناقض بينهما للوصول لرؤية جدية في فهم الظاهرة المدروسة.ولكي تحقق البحوث المختلطة هذه الأغراض فقد اعتمدت مدخلاً بحثياً يتناسب معها يسمى بالمدخل الاستردادي السببي (Abductive Reasoning) ليجمع بين المدخلين الاستنتاجي Deductive والاستقرائي Inductive.فالمدخل الاستردادي Abductive approach هو مدخل ينشأ من الملاحظات الغير مكتملة، أوالمفاجئة والتي يركز الباحث على تفسيرها معتمداً على الخبرة والواقع الذي يقود إلى أفضل التوقعات للحقيقة وربما إلى نظرية جديدة، ويتطابق مع المدخلين السابقين في التفسير المنطقي وبناء النظريات. فعلى سبيل المثال لإيضاح المدخل الاستراداي السبي هو حقل الأدلة الجنائية؛ حيث يتوجه الباحث لمقر الحدث الذي حدث بشكل مفاجئ، ويحمل ألغاز وشفرات يتطلب منه حلها، لاكتشاف الفاعل الحقيقي. فالمحقق من خلال ملاحظة مسرح الجريمة يقوم ببناء افتراضات أولية وفق الملاحظة ثم بعد ذلك ربط الملاحظات والبيانات ببعضها لينشئ افتراضات مبدئية، يقوم فيما بعد بترتيبها حسب قوة الترابط بين البيانات والأدلة لينطلق في جمع البيانات الكمية والنوعية على حد سواء لهدف إثبات أو دحض تلك الافتراضات حتى الوصول للنتيجة الفاعلة.ومما دعا لظهور المدخل الاسترادي، أن بعض الظواهر التجريبية مثلاً التي قد لا تفسر مباشرة بالنظريات العلمية المتاحة حالياً؛ وبالتالي فإنه يبحث عن أفضل الحلول والإجابات باستخدام البدائل المتعددة ليصل إلى وصف تلك الحقائق المفاجأة بالجمع بين الأرقام والتفسيرات المعرفية cognitive reasoningواليوم البحوث المختلطة تعيش حراكاً عاملياً يجعلها في عصرها الذهبي الذي قد ينتج طرق حديثة خلال السنوات القليلة المقبلة لمعالجة بعض القضايا المكررة والجدلية بين المداخل البحثية، كالجدل في معايير الصدق والثبات الكمية ومظاهر الموثوقية في البحوث النوعية. وقد بدأت مؤشرات للوصول لاتفاقات في البحوث المختلطة تحت ما يسمى met inference أو تحويل التحليل النوعي إلى أرقام بحيث الأرقام تستخدم في ضبط الكلمات والكلمات تضيف للمعاني للأرقام.                                                                                              كتبهمحمد بن عبد الله بن عطية الزهرانيمحاضر بكلية التربية – جامعة بيشةمبتعث لجامعة اكستر البريطانيةEmail: [email protected]: +447770164307WhatsApp: +966547922291Twitter: @alahmadim2010 


займ на карту быстро

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock