خواطر وارتسامات من وحي رحلتنا إلى كوريا الجنوبية | بقلم: أ.د لطيفة حسين الكندري
أكاديميا |
سعدت بالمشاركة في رحلة رابطة أعضاء هيئة التدريس في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب إلى كوريا الجنوبية في الفترة من تاريخ ٧ إلى ١٧ يناير 2019م، وقضينا قرابة أربعة أيام في العاصمة سيؤول ومثلها في مدينة بوسان. في هذه الرحلة الممتعة زرنا العديد من الأماكن التراثية والثقافية والشعبية والدينية والسياسية حيث زرنا السفارة الكويتية في سيؤول والتقينا بسعادة السفير الأستاذ بدر العوضي الذي سنتحدث عنه في نهاية المقال.
زرنا العديد من المدن من مثل المدينة الفرنسية الصغيرة وكانت ذات طابع يخاطب الخيال بألوان زاهية ومجسمات تجذب الناظرين…وكذلك قمنا بزيارة خاطفة لمدينة للتزلج، وجزيرة نامي الجميلة والمليئة بذكريات العصور الوسطى…ويوجد في الجزيرة أكثر من مكتبة للأطفال رائعة، وجاذبة بألوانها وطريقة عرض الكتب والمواد الثقافية والترفيهية والديكورات الإبداعية الجاذبة للطفل…كذلك في جزيرة نامي أبدعت منظمة اليونيسف العالمية في نشر ثقافة الطفل وتجديد طرق مساعدة المحتاجين من أطفال العالم… ومن الأماكن التي تحكي عن الفلكلور الكوري تجولنا في قرية تراثية تجمع عادات وتقاليد الشعب الكوري بشكل مبسط وجميل حيث رأينا البيوت البسيطة والفخمة…وتضمنت الرحلة زيارة بعض المعابد والمقابر البوذية والمتاحف وكثير من الأسواق التراثية والعصرية…كما تجولنا في أطول برج في كوريا الجنوبية (Lotte World Tower) وهو أطول خامس برج عالميا. وفي العاصمة أيضا وضعت زها حديد بصمتها المعمارية. فيما يلي بعض الخواطر والارتسامات على ما سبق ذكره كتبت بعضها بحسب مناسبتها لقروب الرحلة المكون من أكثر من خمسين مشاركا، وقامت شركة آفاق للسياحة والسفر بإعادة نشر بعضها فلهم جزيل الشكر… ثم جمعت خواطري ووضعتها في هذا المقال.
يوم الوصول
وصلنا إلى العاصمة سيؤول يوم الثلاثاء الموافق ٨ يناير ٢٠١٩ م بحمد الله ورعايته بعد ساعات طويلة قضيناها على متن الخطوط الجوية القطرية وكان الجو باردا جدا ساعة وصولنا سيؤول، وتم استقبالنا بحفاوة، وبطريقة لبقة وفي غاية التنظيم. وبهذه المناسبة أشكر رابطة أعضاء هيئة التدريس في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب والقائمين على اختيار هذه الرحلة الخصبة، وأخص بالذكر د. يوسف العنزي ود. سميرة المذكوري ود. عايدة العيدان ود. عادل حمودة. اتجهنا من مطار سيؤول إلى فندق غلاد (glad) بكل سلاسة واريحية رغم موجة البرد. يقع الفندق بقرب البرلمان الكوري الذي يتألف من 300 عضو. البرلمان له قبة ضخمة شامخة.
كوريا الأصالة والحداثة
تعتبر مدينة سيول من العواصم الرقمية إذ أنها ذات طابع تكنولوجي متقدم عالميا حيث تحتضن مدنا ذكية وشركات عملاقة من مثل شركة فورتشن جلوبال؛ سامسونج، وشركة إل جي…. ولديها نهضة تعليمية براقة. في اليوم الثاني من وصولنا قمنا بزيارة بعض المعالم التاريخية في كوريا الجنوبية من مثل قصر جيونج بك، والمتحف الوطني وشاهدنا الاحتفالات العسكرية التي تجمع بين الهيبة والمتعة. وكذلك تجولنا في عدد من الأسواق الشعبية العريقة التي توفر الأطعمة الشعبية، والملابس وأنواع الأقمشة والاكسسوارات المنزلية، وتذكرت سوق المباركية في الكويت من حيث الطراز والزحام، ووجدنا في المطاعم الهندية والعربية وجبات العشاء التي لا زالت في ذاكرتنا الجميلة. ولقد استحوذت البضائع الكورية على اهتمام عدد من الزملاء والزميلات فكان الاقبال على زيت الجنسن ومشتقاته، ومنتجات العناية بالبشرة، والملابس الكورية، وكمادات الحرارة والتي عرفنا بها أ.د يوسف بوعباس. وشخصيا أعجبتني ديكورات المطبخ والديكورات التراثية المتعلقة بإعداد مائدة الطعام إضافة إلى مجموعة إصدارات ذات صلة بالثقافة الكورية والمرتبطة بالبوذية والكونفوشيوسية حيث أنني بصدد اعداد كتاب جديد في الفكر التربوي بعون الله.
يمتد التراث الكوري إلى أعماق التراث الصيني الكونفوشيوسي فالصلة بين الصين وكوريا قديمة جدا. ويعتبر كونفوشيوس من أبرز المربين على مستوى العالم وتشير الكتابات الكورية المعنية بالتربية بأن أتباع كونفوشيوس في كوريا عبر القرون قاموا بنشر التعليم الأساسي والعالي على حد سواء كما ركزوا على ترسيخ الانتماء الأسري. ومن جهة أخرى استخدموا في التعليم الصور الرمزية للأطفال لغرس الفضائل التي ذكرها كونفوشيوس… ولعلهم بهذا سبقوا معلم الأمم؛ كومينيوس التشيكي في استخدام الصور. امتد تأثير كونفوشيوس خاصة في مملكة جوسون (JOSEON) التي استمرت خمسة قرون أثناء العصور الوسطى. كما اهتم اتباع كونفوشيوس بحركة النجوم وأيضا ما يسمونه بالكون الأصغر أي الانسان وتهذيب أخلاقه…ومن أقوال الحكيم كونفوشيوس: التعليم يولد الثقة، والثقة بالنفس تولد الرجاء؛ والرجاء يولد السلام”. ظهر هذا المعلم الصيني الشهير في القرن السادس قبل الميلاد، وركز على التربية الأخلاقية والعقلية والاجتماعية والبدنية وطالب بتعليم الموظفين وتقليد المتعلمين مناصب الدولة وله عناية كبيرة بالجوانب النفسية فهو القائل ما لا تتمناه لنفسك لا تفعله لغيرك.
مدينة بوسان البحرية
وبعد أن قضينا بضعة أيام في العاصمة اتجهنا الى مدينة بوسان في رحلة تستغرق ست ساعات تقريبا في الباص فانطلقنا نحو قرية “غام تشون” الثقافيّة في بوسان؛ منطقة مرتفعة تطل على ساحل البحر وتحيط بها الجبال الشامخة وكأنها تتطلع للسماء بتواضع. بيوتها ملونة ومتلاصقة وفيها سلالم متعرجة وممرات ضيقة. المنظر غاية في الجمال والهدوء والنظافة، وتحتضن القرية ذكريات الحروب الأليمة ولجوء المشردين إليها. قضينا هناك أكثر من ساعة نتجول في طرقاتها ونطلع على بضائعها ومحلاتها. مكان جميل بلمسات فنية وألوان زاهية، وفي غاية النظافة والأناقة تفتح شهية محبي التصوير…من أصحاب الانستغرامات ومواقع التواصل الاجتماعي. وبطبيعة الحال فإن القرية تشجع الصغير والكبير على التأمل والتفكر والاعتبار والوعي بأحوال الأمم … ذكرياتنا تستحق التوثيق…بالكلمة والصورة ونقوش المشاعر.
نجح سكان تلك القرية في تحويل الأنظار إليهم فرغم صغر بيوتهم وتواضع إمكاناتهم إلا أنهم قرروا جميعا تطوير مهاراتهم في الأعوام الماضية وقدموا صناعات يدوية تذكارية تخلد طريقة حياتهم قديما. كان ذلك عملا أهليا تطوعيا في البدايات ثم تبنت الحكومة الكورية ذلك المشروع الطموح وتم تقديم ورش عمل ودورات تعليمية لمواكبة الحدث وتحويل المشروع المتنامي إلى بصمة وطنية، ووجهة سياحية…إن الشعوب الطامحة تصنع تاريخها، وتطور واقعها. وتحقق الأمل المنشود في عام 2011م بجودة عالية. يعمل أهالي المنطقة في المحلات ويمتلكون حسا ابداعيا لجذب عشاق الأصالة الإنسانية ومحبي الفنون والذوق الرفيع. تصور المحلات التجارية طريقة المعيشة قديما في المطعم والملبس وتجميل الطرقات. من المؤكد أنها مدينة ساحرة ببساطتها ورموزها ورسوماتها … ومن العبارات المأثورة في القرية المذكورة: جميع الأطفال يكبرون في حين أن قلة منهم يحتفظون بالذكريات. هذه العبارة عالقة في ذهني، وقابعة في قلبي كي لا تطويها صفحات النسيان…لذة الأيام الجميلة لا تُنسى… استمتعنا بكل لحظة في القرية التراثية الكورية…شكرا للزملاء والزميلات باص رقم ١ وباص رقم ٢ والشكر موصول للمرشدة السياحية المتميزة “لورا” الكورية التي قدمت معلومات سخية بأسلوب موفق. كان الباص طوال الرحلة فرصة لاكتساب المعرفة وفتح أبواب الحوارات المتنوعة.
متاحف ومعابد وفلسفة
وبعد ذلك اتجهنا بالموعد المحدد نحو المتحف الوطني في بوسان gueongju national museum بقيادة قديرة من الدكتورة سميرة المذكوري مشرفة باص رقم ٢ الذي أصبح جزءا من ذكرياتنا الحلوة… ثم زرنا مقابر الملوك حيث يدفنون معهم ثروتهم ومستلزمات المعيشة…تجربة فيها إيحاءات حياة الفراعنة….وبعد ذلك اتجهنا إلى معبد محاط بالجبال وهو معبد بوذي seokguram وهناك استقبلتنا الأمطار بصحبة الضباب. مشينا نحو ثلث ساعة ونحن ننظر للطريق المتعرج وتحتنا الأودية في منظر مهيب جميل وفي جو رياضي…. استمتعنا بالجو الرائع واستمعنا للمرشدة السياحية لورا التي تحدثت عن أثر الأيديولوجية البوذية في الثقافة الكورية لا سيما في مملكة شيلا….وهنا تذكرت بحثا من أبحاثي وهو بعنوان: الفكر التربوي في الحضارات ودوره في رفد الواقع، واعتمدت في ذلك البحث على كتاب ممتع: قصة الحضارة وهو من تأليف ول ديورانت المؤرخ والفيلسوف الأمريكي المشهور…لقد ظهرت الفلسفة البوذية في الهند واحتلت مساحات واسعة تشغل الفكر الإنساني وشكلت مناهج التعليم والاصلاح في كوريا لعدة قرون. نمت البوذية في القرن السادس قبل الميلاد وأتباعها اليوم في كثير من أرجاء العالم. بوذا هو سيدهارتا جواتاما المعروف باسم بوذا أي الرجل المستنير أو على حد تعبير المرشدة لورا في الباص رقم ٢ هو الرجل الذي يجمع صفات الحكمة. قام بوذا بعمل إصلاحي شامل. وتقوم البوذية على عقيدة خلاصتها أنه لا يمكن التخلص من الألم إلا بممارسة العبادة (النيرفانا) لقمع الشهوات من جهة، وتفعيل التفكر والتأمل من جهة أخرى. من أهم تعاليم بوذا احترام الكبير وهو الأمر الذي يحافظ عليه الكوريون إلى اليوم.
كانت وسيلة التربية والتعليم عند بوذا في نشر تعاليمه هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل والمرح وروح الفكاهة ونصائح أخلاقية لتوجيه أنصاره. كان شغوفا بنشر المحبة والعيش بسلام متحمساً للسلام والنقاش الهادئ. ومن أبرز أقوال بوذا “الفكرة التي تتطور وتصبح فعلا خير من تلك التي تقف عند حد كونها فكرة”. “إن صعاليك البشر هم الذين لا يكفون عن الثرثرة بتوافه الحديث التي تمجد الذل والخنوع”.
لا يتحقق النجاح وفقا لفلسفة بوذا إلا بالالتزام بثمانية آداب وهي (العلم الصحيح- التطبيق- الكلام الحسن- التصرف السليم – الحياة الصحيحة – بذل الجهد – التفكير السليم – التركيز السليم). ومن وصايا بوذا: لا تقتل ولا تزن ولا تسرق ولا تتناول المسكرات. قضينا يوما جميلا بحمد الله تعالى… نشكر جميع من قام بتنظيم الرحلة وحضر معنا ويتابع أخبارنا …حياتنا ذكرياتنا الطيبة…وقراؤنا مبعث فرحتنا، وصداقاتنا من أثمن ما يملكه الإنسان عندما يعيش لحظة بلحظة مع إخوة وأخوات في الأسفار الجميلة. إن السفر الناجح يسفر عن أخلاق الناس ويكشف عن طيب معادنهم وهكذا كانت رحلتنا الجميلة بأنشطتها ومسابقاتها وفكاهاتها وفوائدها.
في سفارة دولة الكويت
ومن زياراتنا الوطنية قمنا قبل مغادرة العاصمة بزيارة السفارة الكويتية في سيؤول والتقينا بسعادة السفير الكويتي لدى كوريا الجنوبية الأستاذ بدر العوضي ودار حوار ثقافي ودي بيننا. استغرقت الجلسة الودية أكثر من ساعة أدارها الدكتور يوسف العنزي باقتدار، وقام بالتعريف برابطة أعضاء هيئة التدريس في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب على نحو مشرف. ومن جانبه قدم سعادة السفير الاستاذ بدر محمد العوضي نبذة مركزة عن دور السفارة الرائد في خدمة القضايا الكويتية وكرر ترحيبه بنا وحفاوته بالمعلمين. كانت الجلسة بجميع المعايير مكتنزة بأفكار تنموية عديدة (صحية وتقنية وقيمة وتعليمية وسياسية)، استمعنا إليها بشغف، واستمتعنا بها بعناية. نفخر بالجهود الدبلوماسية الكويتية المشرفة فالجهد المبذول يدل على رؤية واضحة للتعريف بالكويت وتوظيف جميع الطاقات الكفيلة باستمرار نهضتها. تعلمنا من سعادة السفير الأستاذ بدر محمد العوضي أن السفارات مشاعل اشعاع ثقافي تحتضن المعلمين وتفتخر بهم، وتكرمهم وتشاركهم في بث العلم، وترسيخ قيم الوطنية قولا وعملا. خرجنا من السفارة الكويتية في كوريا الجنوبية، ولمسنا حقيقة تواضع السفير العوضي وسعة علمه، كما لمسنا حفاوة الترحيب بنا من جانب العاملين في سفارتنا فجزاهم الله خيرا. لقد كانت رحلتنا فعلا رحلة استكشافية ترويحية ثقافية اجتماعية بنكهة سياسية في ختامها ولهذا فإن رحلتنا من طراز رفيع وسعت بحكمة مداركنا، ووثقت بروية علاقاتنا وصداقاتنا.
كلمة ختامية
كوريا الجنوبية وجهة جديدة ناجحة تستحق التجربة أكرر شكري لرابطتنا الموقرة…اختياراتكم بحمد الله موفقة، وادارتكم فعلا تستحق الثناء والتلاحم والشكر حفظكم الرحمن… وإلى المزيد من المكاسب داخل وخارج دولتنا الحبيبة.