كيف يدمر نظام تعليمي الأطفال الموهوبين؟ فرنسا نموذجًا!
أعد الكاتب الفرنسي باسكال إيمانويل جوبري مقالًا نشره موقع شبكة «بلومبرج» الأمريكي، يتحدث فيه عن نظام التعليم القائم على المساواة الصارمة في فرنسا، وكيف أن هذا النظام غير المرن يعمل عكس مصلحة التلاميذ في البلاد.
يقول الكاتب في مقدمة مقاله: «إن في القرن الحادي والعشرين أطفال فرنسا الموهوبوين هم ثروة طبيعية ذات تقدير أعلى من البترول مثلًا، لكن دراسة حديثة تظهر أن هذه الثروة تهدرها البلاد على نطاق واسع».
أعدت الدراسة لورانس فايفر دوريه، وهي أستاذة علم النفس العصبي بجامعة باريس، وعرضت الدراسة أثناء مؤتمر عقد مؤخرًا نظمته وزارة التعليم ولم تنشر بعد، لكن الدراسة أظهرت أن 39% من أطفال فرنسا الموهوبين يعانون من الاكتئاب، في مقابل 2% فقط في عامة أطفال البلاد. فإن أكثر من 80% من العينة التي أجريت عليها الدراسة تم تشخيصهم بالقلق، كما أن أكثر من خُمس الأطفال الموهوبين في الدراسة لديهم ميول انتحارية.
وكما تشير معدة الدراسة، فإن هناك سببًا يجعل من هذه النتائج ناقوس خطر: فالأطفال الموهوبون في فرنسا لا يمكن تمييزهم سوى بعد مواجهة صعوبة في الانخراط مجتمعيًا، أو أي من الصعوبات الأخرى التي تستلزم إجراء اختبارات وفحوصات. فليست هناك آلية يمكن بها التعرف على هؤلاء الأطفال في وقت مبكر مثلما يحدث في الولايات المتحدة وعدد آخر من الدول. مع ذلك فإن النتائج منذرة إلى حد كبير، لكن بحسب الكاتب فهي غير مفاجئة على الإطلاق.
لا شك أن بعض معاناة الأطفال الموهوبين موجودة على مستوى العالم (تشير الباحثة أن الذكاء في حد ذاته هو سبب للقلق المرضي)، لكن في حالة فرنسا فهناك شيء ما خاطئ في النظام. فبحسب دراسة عام 2012، فإن فقط ثلث الطلاب الموهوبين يحصلون على شهادة جامعية؛ ما يعني أن 70% يختبرون فشلًا دراسيًا في مراحل ما قبل الجامعة. هناك شيء ما في محيطهم يخذلهم ويجعلهم يفشلون.
يقول الكاتب: إن نظام التعليم الفرنسي يدعم طريقة الحفظ والتذكر، مثل: الببغاء، بدلًا عن الابتكار، أو الفضول للمعرفة، أو التعبير عن الذات. قد يبدو ذلك في صالح قدرات الموهوبين، لكن الحقيقة أن هؤلاء الأطفال الموهوبين يملون من الواجب المدرسي الروتيني، ويتوقفون عن أدائه. ولأن معظم أولياء الأمور على غير دراية بمعاناة الأطفال الموهوبين، كما أن معظم المدرسين يرفضون أن يكونوا على وعي بذلك، فإن هذا يجعل الطفل يصنف كمشكلة. وفي أغلب الأحيان، فإن الطفل الصغير يستوعب هذا التصور، وببساطة يتوقف عن المحاولة، أو يبدأ التمرد على المؤسسة.
يشير الكاتب إلى سمة أخرى في نظام التعليم الفرنسي صمدت طويلًا، وتضاعف من المشكلة: وهي المساواة الصارمة التي تقول بأنه يجب معاملة كل الأطفال بشكل مماثل ومتساوي تمامًا، بغض النظر عن الاحتياجات الفردية. إن نظام التعليم الفرنسي المتجانس يجمع بين العقلية المحافظة الصارمة الموروثة عن الجذور المقدسة التي جاءت من القرن التاسع عشر، وبين أسوأ ما في العقلية التقدمية الموروثة من احتجاجات مايو (أيار) 1968، عندما انتزعت اتحادات المعلمين اليسارية بشكل أساسي إدارة وزارة التعليم من السياسيين. وما نتج عن ذلك كان نظامًا تعليميًا يعيق كلًا من الأطفال ضعفاء الأداء، والآخرين الموهوبين.
أما المدارس الخاصة، فيشير الكاتب أنها لا تختلف عن ذلك: فتحت ما يسمى بنظام التعاقد، فإن الغالبية العظمى من المدارس الخاصة تتلقى دعمًا من الحكومة، لكنها يجب عليها أن تلتزم بالمناهج والكتب الدراسية والطرق التعليمية التي تفرضها الحكومة. ولأن المدارس الخاصة تتنافس على أساس الدرجات الأعلى في الاختبارات، فإنها تؤدي إلى اعتماد أكبر على طريقة التلقين والتحفيظ، كما أن لديهم الحرية بشكل أكبر من المدارس الحكومية في طرد وفصل أي طفل يمثل مشكلة للمدرسة. أما المدارس المستقلة بشكل حقيقي فهي نادرة للغاية، كما أنها ليست في المتناول ماديًا بالنسبة للجميع.
يرى الكاتب نفسه بالكاد يكون مراقبًا محايدًا، فيقول إنه عندما كان طفلًا كان جزءًا من الفصل الافتتاحي لأول مدرسة إعدادية للموهوبين فتحت في منطقة باريس، وكانت الثانية على مستوى البلاد، وكان حينها تجاوز ثلاث سنوات دراسية نظرًا لموهبته. يقول الكاتب: «غالبية زملائي في الفصل جاءوا من مدارس، حيث المدرسون كانوا يخبرون أولياء الأمور أن أطفالهم لديهم قصور عقلي، وأنهم لن يبلغوا أي شيء، لكنهم كانوا يشعرون بالتغيير فور وجودهم في محيط يتم فيه التعرف على تحدياتهم. إن أولياء الأمور قدموا تضحيات كبيرة لإرسال أبنائهم إلى هذه المدرسة، فهم يعرفون الدمار الذي لحق بنظام التعليم التقليدي».
إن قصة جوليان (13 عامًا) التي أعدتها ونشرتها صحيفة «ليبراسيون»، تقشعر لها الأبدان – بحسب الكاتب. إن جوليان كان يفضل دراسيًا، لكن وجدوا أن درجة ذكائه تبلع 146، وتم اختبار ذكائه لمجرد أن معلّمه اعتقد أن لديه قصورًا عقليًا. تجاهل القائمون على المدرسة نتيجة اختبار الذكاء، وعرضوه لإهانة على الملأ في الفصل، كما أدى – على نحو متوقع – إلى تنمر من قبل زملائه، حتى حُول بناءً على توصية من الأخصائي النفسي للمدرسة إلى مدرسة أخرى تشبه السجن للأطفال ذوي المشاكل السلوكية أو العقلية الشديدة.
ويواصل الكاتب حكاية جوليان، الذي انتهى به الأمر إلى إيذاء نفسه، ونقل إلى المستشفى، ووضع تحت المراقبة لمنع أي محاولة انتحارية. لم يعد جوليان قادرًا على الأداء مرة أخرى، سوى بعد قرار والدته بتعليمه منزليًا، وتحملت نفقات هائلة في سبيل ذلك. إن هذه القصة – يقول الكاتب – إنها تتشابه مع قصص أخرى لا حصر لها شهدها بنفسه، مع اختلاف التفاصيل، مثل تجاهل المعلّمين للتشخيص الطبي وادعاء أنه مزيف، أو إجبار الأطفال على خيارات سخيفة تأتي بنتائج عكسية، مثل إخضاعهم لبرامج للأطفال الذين يعانون من قصور، أو العنيفين.
إن هذه المشكلة بالطبع تعمق الانقسامات الاجتماعية المؤلمة في فرنسا. إن الطفل الأبيض الذي يسلك سلوكًا خاطئًا في الفصل لأنه يشعر بالملل يمكن أن يعامل بتهاون، أما عندما يصدر سلوك مشابه عن طفل عربي المظهر، أو ذي بشرة سمراء، فإنه غالبًا ما يتم تفسير سلوكه بطريقة مختلفة تمامًا. إن أولياء الأمور من الطبقة الاجتماعية والاقتصادية الأعلى لديهم الخيار – أكثر من نظائرهم في الطبقة العاملة – للضغط على البيروقراطية، أو حتى البحث عن مدارس أكثر تفتحًا.
في وزارة التعليم الفرنسية – يواصل الكاتب – هناك إيمان عميق وراسخ أن أي اختلاف في معاملة الأطفال سيعرض المساواة، وهي حجر الأساس للمدارس الحكومية، للخطر. هؤلاء الذين يعتقدون ذلك، هم أقلية، لكنهم أقلية كبيرة، وهم يشغلون المناصب الرئيسية في الوزارة والاتحادات؛ ما يعطيهم تأثيرًا هائلًا على أشياء مثل لجان الترقية، وصياغة المبادئ التوجيهية؛ ما يؤدي إلى فرض سيطرتهم، وإقناع الأغلبية الصامتة البراجماتية.
يرى الكاتب أن الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، لديه خيارات محدودة للاستجابة إلى هذه المشكلة. فوزارة التعليم لديها إدارة مستقلة بالأساس منذ مايو (أيار) 1968. إن وزراء تعليم سابقين غير محظوظين، أمثال كلود أليجري، ولوك فيري، وصفوا المفاوضات التي سيواجهها الوزارء المقبلون: لديكم حرية تطبيق تغييرات شكلية، وأخذ كل الفضل، لكن أي شيء آخر سينتج عنه إضرابات مدمرة. إن وزير التعليم الذكي – بحسب الكاتب – في حكومة ماكرون، جان ميشيل بلانكر، قد أنفق بالفعل جزءً كبيرًا من المخصصات السياسية في إصلاح اختبار إنهاء التعليم المدرسي، وأظهر اهتمامًا بالمزيد من الإصلاح المهم.
ما زال هناك بوادر تبعث على الأمل. فمنذ عام 2009، أصبح لدى كل منطقة تعليمية إقليمية في فرنسا عضوًا معنيًا بقضايا تعليم الموهوبين. إن المزيد من المدارس الحكومية الآن أصبح لديها برامج خاصة لهؤلاء الأطفال الذين يستطيعون تخصيص المناهج الخاصة بهم، وحضور حصص في مختلف السنوات الدراسية، وحتى الانخراط في التعليم الذاتي. ونقل الكاتب ما صرح به جان مارك هوارت، وهو موظف حكومي كبير في وزارة التعليم، من أن الوزارة تريد أن «تعدل المسار» في منهجها. وفي عام 2017 أنشأت منطقة باريس التعليمية فريقًا خاصًا مسؤولًا عن تدريب المعلّمين والمديرين على تعليم الموهوبين، ومساعدتهم في خلق خيارات خاصة لهؤلاء الأطفال. هذه الخطوات تبدو متواضعة، وهي كذلك بالفعل، كما يقول الكاتب، لكنها كانت في السابق غير واردة بالأساس.
إن هذه الخطوات أصبحت متاحة – في رأي الكاتب – لأن الجيل الذي تشكل بفعل مايو 1968 يتقاعد الآن، ويعتلي البراجماتيون ببطء سلم الوظائف. طوال 15 سنة ماضية، وبعد الكثير من المقاومة الداخلية، فإن المدارس الفرنسية أحرزت خطوات هائلة فيما يخص تمييز وتهيئة صعوبات التعلم، مثل عسر القراء (ديسلكسيا)؛ مما يعزز فكرة أن تقديم الخيارات المختلفة للاحتياجات المختلفة لا يعتبر خيانة بالضرورة لفكرة المساواة الصارمة.
ويختتم الكاتب مقاله قائلًا: «بعد عقود من إنفاق فرنسا أموالًا هائلة على التعليم، بينما تواصل المدارس انخفاض ترتيبها في المؤشرات، فإن الحاجة إلى الإصلاح أصبح من الصعب تجاهله حتى داخل الأوساط السياسية».
المصدر: ساسة بوست