يفقد النشاط ويكتسب الحكمة.. كيف يبدو الدماغ عند الشيخوخة؟
ارتبط تقدم السن في الحضارات القديمة بالحكمة، لكن ظل بلا دليل علمي إلى أن أجريت حديثًا بعض الدراسات العلمية التي صورت حال الدماغ في سن الشيخوخة وكيف يقوم بالعمليات العقلية ومدى السرعة التي يعالج بها المعلومات، لتتوصل إلى منبع الحكمة وماهيتها، كما اعتنت الدراسات بالتعرف إلى القدرات التي يحتفظ بها دماغنا مع التقدم في العمر وما يمكن أن يسهم به المسنون في مجتمع العمل خاصة مع ارتفاع أعداد المسنين في مجتمعات كثيرة وعودتهم إلى سوق العمل، وفي السطور التالية نتعرف على ما يحدث لدماغنا إثر التقدم في السن وهل تضعف قدراته أم أنه يكتسب مهارات أخرى؟
يمر التطور الجيني الذي يشكل شخصية الإنسان بمراحل معقّدة، ومنذ الأسبوع الثالث من عمر الجنين يبدأ عمل النظام العصبي، ثم يحدث التفاعل بين المكونات البيئية والعوامل الوراثية وعمليات تكوين الخلايا إلى أن تصل إلى مرحلة النضج.
وخلال رحلة الحياة يمر الدماغ بتعديلات هيكلية كيميائية تؤثر شكليًا ووظيفيًا في عمله، وقدارته وسرعة معالجته للمعلومات، والتي تعني في النهاية قدراته المعرفية، فتكون الاستجابة للمنبهات بطيئة في مرحلة الطفولة، وتميل إلى الزيادة تدريجيًا مع نضوج الدماغ (الذي يصل إلى مرحلة الذروة عند سن 21 عامًا)، ثم تنخفض مرة أخرى خلال مرحلة الشيخوخة.
متى تصل قوة دماغنا إلى الذروة؟
تكون 95% من عقولنا قد اكتملت بوصولنا إلى سن السادسة، ومنذ ذلك الحين تستمر المادة الرمادية في الزيادة مما يسمح للخلايا العصبية بتكوين اتصالات جديدة، و تشير الفرضية العلمية الأكثر قبولًا إلى أن الإمكانات الكبيرة لتطوير الدماغ تعتمد على التشابك العصبي الذي يتم التخلص منه، فالدماغ يحتفظ بالروابط العصبية التي يتم استخدامها، بينما يعمل بطريقة ما على تقليم الفروع العصبية التي لا يستخدمها، وهذا ما يؤثر بشكل مباشر على التطور المعرفي والإدراكي في عقولنا.
وفقًا لأبحاث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فإن قدرتنا على التفكير بسرعة وتذكّر المعلومات تصل إلى ذروتها من النشاط عند سن العشرين وتشير الدراسات إلى أن هذه هي النقطة التي يبدأ عندها دماغنا في الشيخوخة، وهو وإن بدا عمرًا مبكرًا جدًا فالعملية أكثر تعقيدًا مما قد تتصور، إذ لا يتراجع النشاط العقلي مع التقدم بالعمر بشكل متساوٍ، وليست هناك أيضًا ذروة واحدة من التطور المعرفي، هناك قمم مختلفة كما وأن مهام الدماغ تتراجع تدريجيًا. من الصحيح إذن أن عقولنا تبدأ في فقد قوتها منذ سن العشرين لكن هذا لا يشمل كل الجوانب فبعض الأنشطة تستمر في العمل بكامل طاقتها حتى سن الأربعين.
هكذا تنمو مهاراتنا وتصل إلى قمتها
يقول جوشوا هارتشورن الباحث في قسم الدماغ والعلوم المعرفية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «ربما لا يكون هناك سن واحد تصل فيه معظم قدراتنا إلى الذروة، في كل مرحلة عمرية نكتسب مهارات وتضعف غيرها في الوقت نفسه».
تقول لورا جيرمين الباحثة في علم الأمراض النفسية والنمائية العصبية في المعهد إن مهارة التعرف إلى الوجوه على سبيل المثال تظل بكامل قوتها حتى بلوغنا الثلاثين ثم تبدأ في التراجع، فيما تكون ذروة نشاطنا في معالجة المعلومات بين 18 و19 من العمر، وفي سن الخامسة والعشرين تصل الذاكرة قصيرة المدى إلى أقصى أداء لها، وتكون قدرتنا على التعاطف مع الآخرين وتقييم الحالات العاطفية لهم في ذروة نشاطها بين 40 و50 عامًا.
ضعف طفيف في القدرة على التذكّر
يزن الدماغ البالغ في المتوسط ما بين 1300 و1400 جرام. وتتغير هذه الأرقام على طول حياة الإنسان، ويحتوي الدماغ على حوالي 100 ألف مليون عصبون وعدد أكبر بكثير من نقاط الاشتباك العصبي التي تسمح للخلايا العصبية بالاتصال ببعضها البعض.
تحدث تغيرات هيكلية في الدماغ مع مرور السنوات فيقل وزن وحجم الدماغ، وفي الظروف الطبيعية ينخفض وزن الدماغ بنسبة 10-15% عند سن التسعين مقارنة بوزنه فيما بين سن 25-30 عامًا.
يتكون الدماغ من خلايا عصبية تدعى العصبونات تتصل فيما بينها حين نتخذ القرارات أو نختبر العواطف عن طريق مزيج معقّد من العمليات الكيميائية والكهربائية تسمى التشابك العصبي، وفي مرحلة الشيخوخة تتقلص بعض الخلايا العصبية في المناطق المسؤولة عن التعلم والذاكرة والتخطيط وغيرها من الأنشطة العقلية المعقدة.
هذا التغيير طبيعي في مرحلة الشيخوخة، لذا يعاني كبار السن الأصحاء غالبًا من انخفاض طفيف في قدرتهم على التعلم واسترجاع المعلومات، مثل تذكر الأسماء. يكون الانتباه والتعلم والتذكر تحديدًا أكثر العمليات تعرضًا للضعف، ومع ذلك فإن تكريس الوقت الكافي لأدائها يمكّن كبار السن الأصحاء من أدائها باقتدار مثل غيرهم من الشباب؛ ما يعني أن ما يحدث في الأساس هو تباطؤ معرفي.
ويحفز التأمل التغيرات العصبية الحيوية كما تؤكد تجربة أُجريت في مختبر سارة لازار في كلية الطب بجامعة هارفارد وخلصت إلى أن ممارسة التأمل لثمانية أسابيع يمكن أن يزيد كثافة المادة الرمادية في مناطق الدماغ وهي المرتبطة بالوظيفة التنفيذية والذاكرة.
يكتسب الحكمة
تقلل الشيخوخة النشاط في بعض مناطق الدماغ إذن، لكن هناك دليلًا على أن هذا قد يدعم تغييرات في مناطق الدماغ المرتبطة بالدعم السلوكي والاجتماعي، وهذه النقلة في عمل الدماغ تعزز الحكمة لدى بعض الأفراد، فيتحول تركيزهم بعيدًا عن الذات لينصبّ على الاتزان العاطفي والوعي الاجتماعي على نطاق أوسع.
إنها الحكمة التي انشغل الفلاسفة منذ القدم بالتوصل إلى معناها، فكانت الهندوسية والبوذية تميل إلى تعريفها على أنها القدرة على الاتزان العاطفي، فيما ركّز أرسطو على أنها معرفة متى ولماذا نتصرف بطريقة عملية، وبشكل عام فهي تعني القدرة على تنظيم التفكير بحيث نحقق التوازن بين المصلحة الذاتية ومصالح الآخرين والمجتمع.
هذا الافتتان البشري بالحكمة وجد صداه في المجتمع العلمي قبل أربعة عقود فقط، حيث بدأت الباحثة فيفيان كلايتون المتخصصة في علم النفس العصبي عند الشيخوخة في أوريندا بكاليفورنيا في البحث عن ماهية الحكمة وتوصلت إلى أنها السلوك الرشيد، أو التصرف الناتج عن التأمل والمعرفة والتعاطف في المواقف الاجتماعية، وهي تنبع من توازن النشاط في مناطق الدماغ.
ووفقًا لتجارب ودراسات أرسولا ستادينغر أخصائي علم النفس الألماني، فإن العقل وإن كان يصبح أبطأ في أداء العديد من المهام وتقلّ القدرة على تنفيذ العمليات العقلية بسبب الاختلال الوظيفي في الذاكرة التي تعتبر ضرورية في أداء مهام مثل التخطيط والتعبير اللفظي بطلاقة وغيرها من المهام. لكن هناك مهامًا أخرى تستند إلى المعرفة والخبرة لا تتراجع أبدًا وهي تصل إلى ذروتها في سن الأربعين والخمسين عامًا، وتبقى مستقرة وتنخفض فقط في السنوات الأخيرة من العمر وهنا تتولد الحكمة، وتبقى طالما بقيت عقولنا نشيطة.
اقرـأ أيضًا:
التأمل والارتباط بالآخرين يزيد الحكمة
بعد عام 2006 واصل ستادينغر دراسته ليفرّق بين الحكمة بشكل عام والحكمة على المستوى الشخصي ويخلص إلى أن الحكمة في اتخاذ قرار يتعلق بمصالح الآخرين تبقى قوية لدى كبار السن، لكن الوصول إلى الحكمة حين يتعلق الأمر بحياتهم الشخصية لا يكون بالسهولة ذاتها.
ويفسر إيجور جروسمان الذي يدرس الحكمة في جامعة واترلو في أونتاريو بكندا سبب قدرة الفرد على التحلّي بالحكمة فيما يتعلق بأمور حياته بأنه يرتبط بشكل كبير بشعور الإنسان بذاته. فشعوره بوجود خطر يهدده يُفقده القدرة على التفكير الحكيم إذ ينصبّ تركيزه في الدفاع عن نفسه ضد هذا الخطر بسرعة.
لذلك ففي المجتمعات التي يكون الفرد فيها أكثر اعتمادًا على العلاقات مع الآخرين يكون الناس أقل عرضة للتهديد ويمكنهم بالتالي التفكير في الأمور بالمنطق والحكمة. ويستطيع الفرد تعزيز القدرة على التفكير بحكمة حين يخلق مسافة بينه وبين نفسه أو كما يقول علماء النفس الإكلينيكيين اتخاذ وجهة نظر المراقب لكل ما يحدث بدلاً جانب المشارك.
وفي هذا الصدد يقول جروسمان إننا نستطيع مع تقدمنا في العمر أن نظل مميزين إذا عشنا محاطين بالآخرين، بحيث لا نشعر بالوحدة ولا نتعرض للتهديد، كما أن العديد من العمليات العقلية تبقى مرنة ويمكن تدريبها عن طريق التأمل ورؤية الأمور من منظور الطرف الثالث المراقب والانفصال عن الذات.
كيف نحفظ قدراتنا؟
تقول كاثلين تايلور الأستاذة بكلية سانت ماري في كاليفورنيا إننا في حاجة إلى تشجيع كبار السن على الاستمرار في الإبداع لأن ما سيقدمونه حينها سيكون رائعًا، إننا نفقد طاقات أستاذ جامعي مثلًا؛ يبدأ عمله بكثير من البحث والكتابة ليخرج بأفكار جديدة إلى أن يصبح عميدًا فيتحول عمله في الأساس إلى كتابة الخطب وإدارة المؤسسات وهو ما لا يحتاج إلى الكثير من الطاقة الإبداعية.
مع تقدمنا في العمر يكون لدى الدماغ الكثير من الذكريات والمعلومات والتجارب تكون في مكان أشبه بالأدراج الزائدة. لم تختفِ ولكنها محفوظة بعيدًا في طيات الخلايا العصبية الخاصة بنا، وإن لم يمكننا العثور على كل شيء فيها دائمًا، لكنها تساعدنا على الإبداع والابتكار.
وتؤكد كاثلين تايلور أن الإبقاء على نشاط قدراتنا يكمن في دفع تايلور الخلايا العصبية بشكل دائم إلى النشاط من خلال ممارسة نشاط بدني والقيام بأشياء مختلفة وخوض التحديات الغموض والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة وتطوير القدرة على قبول الاختلافات والسفر وتعلم لغات مختلفة.
المصدر:
ساسة بوست