مترجم: «فوضى الدماغ».. نظرية تغير ما نعرفه عن دقة عمل أدمغتنا
تستكشف عالمة الأعصاب كيلي كلانسي في مقالها المنشور على موقع «نوتيلوس» معنى أن تحكم «نظرية الشواش (الكايوس) – (Chaos Theory)» الدماغ، وما علاقة ذلك بالإرادة الحرة لدى الإنسان والاضطرابات العقلية والطريقة الأمثل لدراسة علم الأعصاب بالمجمل.
ليست أمرًا مروعًا بالضرورة
في عمليات زراعة القلب الجراحية يتجاهل متلّقي القلب عضوه الجديد، بمعنى أن نظامه العصبي لا يحتاج عادةً إلى التواصل مع هذا العضو الدخيل، وهو أمرٌ مُلفت للغاية. يبلغ عدد الخلايا العصبية المتحكمة في القلب 40 ألفًا، وتعمل بصورة مثالية واكتفاءٍ ذاتي، بحيث يمكن قطع القلب من جسمٍ ما، ووضعه في جسمٍ آخر ليواصل عمله بغاية الإتقان – حتى مع غياب التحكم الخارجي – لمدةِ عقدٍ أو أكثر. هذا النظام ضروريٌ لنجاة الكائن الحيّ: تتصرف أجزاءٌ من نظامنا العصبي المسؤول عن إدارةِ أهم وظائفنا الحيوية، مثل الساعة السويسرية، مضبوط توقيته بدقّة ومنيعٌ ضد الاضطرابات. هنا ينعدم السلوك الذي تصفه «نظرية الشواش».
يبلغ عدد الخلايا العصبية المتحكمة في القلب 40 ألفًا وتعمل بصورة مثالية واكتفاءٍ ذاتي، بحيث يمكن قطع القلب من جسمٍ ما ووضعه في جسمٍ آخر ليواصل عمله بغاية الإتقان لمدةِ عقدٍ أو أكثر.
لكن تتساءل الكاتبة: هل ينعدم سلوك الشواش هنا حقًا؟ يمكن لبندولين بسيطين يتأرجحان بانتظامٍ تام أن يتحولا للتحرّك في مسارٍ فوضويّ حين يُربطان معًا. وبما أن مليارات الخلايا العصبية في دماغنا تشبه البندول – كما تذكّر الكاتبة – بندولًا يتأرجح ذهابًا وإيابًا بين الراحة والعمل، ويتصل بـ10 آلاف خلية عصبية أخرى، ألا يصبح الشواش أمرًا لا مناص منه في نظامنا العصبي؟
من المخيف التفكير في هذا الاحتمال: وضع الشواش حساس للغاية للظروف الأولية، ومجرد التفكير في تأثير الفراشة هنا يفتح أبوابًا لكلّ الاحتمالات. ماذا لو دفعنا اضطرابٌ خاطئ نحو جنون لا عودة منه؟ يقاوم الكثير من العلماء فكرة وجود الشواش أو نظرية الشواش في نظمنا البيولوجية، ويستبعدها العديد من النماذج التي يضعونها عمدًا. تقوّض فكرة الشواش نظرية حاسوبيّة العقل (وهي نظرية تقول إن الدماغ ليس سوى جهاز حاسوبٍ معقد – أو معالج معلومات – وأن التفكير ليس سوى شكل من أشكال الحوسبة، مبنيّ على قواعدٍ أساسية). لا تبدو نظرية الشواش مؤهلةً لتشغل موضع آلية معالجة المعلومات البيولوجية، إذ تسمح ببث الضوضاء دون حدود؛ ما يؤدي لإتلاف آليات نقل المعلومات وتخزينها.
تتمثل المهمة الرئيسية للدماغ في حمايتنا – مثل المظلة – من الشواش.
وفي الوقت نفسه نظرية الشواش لها مزايها. تشرح الكاتبة الأمر بهذه الطريقة: على المستوى السلوكي، شكّل سباق التسلح بين المفترس والفريسة وصلاتٍ عصبية لإستراتيجيات غير منتظمة في نظامنا العصبي. على سبيل المثال: يمكن لحشرة العثّة حين تستشعر وجود خفاشٍ قادرٍ على تحديد المواقع بالصدى، أن تسارع لتوجيه نفسها بعيدًا عن مصدر الموجات فوق الصوتية. كلما اقترب الخفاش تزايد عمل العصبونات بصورة غير منتظمةٍ أكثر، إلى أن تبدو العثة – بنوباتها واندفاعاتها سريعة التغير – على هيئة مضطربة من الأجنحة والأرجل. وبصفة أعم، يمكن للشواش أن تمنح عقولنا قدرًا كبيرًا من القدرات الحاسوبية، من خلال استكشاف احتمالاتٍ متعددة بسرعةٍ عالية.
بدافعٍ من هذه المزايا والنقاط الإيجابية المحتملة الأخرى، ومع تراكم الأدلة بالتوازي، يميل علماء الأعصاب تدريجيًا لقبول الأهمية المحتملة لفكرة وجود الشواش في الدماغ.
ولا هي فوضى أيضًا
لا ترادف كلمة الشواش (الكايوس) الفوضى ولا اختلال النظام. ففيما لا يمكن التنبؤ بالأنظمة المضطربة، تندرج الشواش ضمن الأنظمة الحتميّة: أي أن الحالة الراهنة للنظام تحدد مستقبله في وضع الشواش، ومع هذا لا يمكن التنبؤ بسلوكها إلا ضمن نطاقات زمنية قصيرة، إذ تؤدي الاختلافات الصغيرة في المدخلات إلى نتائج مختلفة بدرجاتٍ هائلة. يمكن لأنظمة الشواش أن تظهر أنماطًا مستقرة أيضًا تُسمى بـ«الجواذب» والتي تكشف عن نفسها للمراقب الصبور.
بمرور الوقت تنجذب مسارات الشواش نحو الجواذب. توضّح الكاتبة أكثر: يمكن تحقق نظرية الشواش توازنًا دقيقًا بين النظام الموثوق والمنفتح على الاستكشاف؛ لأنها قابلة للتحكم، لكنها أيضًا غير قابلة للتنبؤ، وبالتالي هي خيار قوي للركيزة الحركية للإرادة الحرة.
لا ترادف كلمة الشواش (الكايوس) الفوضى ولا اختلال النظام، إذ لا يمكن التنبؤ بالأنظمة المضطربة، فيما تندرج الشواش ضمن الأنظمة الحتميّة: أي أن الحالة الراهنة للنظام تحدد مستقبله في وضع الشواش.
أعاق التشابه بين الشواش والاضطراب العشوائي الدراسات الرسمية للشواش منذ أمدٍ بعيد. قد يصعب التمييز بين هذين الأمرين من الناحية الحسابية، ولا سيما في النظم البيولوجية. لا يوجد اختبارات محددة للفوضى عند التعامل مع البيانات البيولوجية متعددة الأبعاد والمتغيرة. قاد والتر فريمان وزملاؤه بعض الدراسات الأولى التي حاولت إثبات وجود الشواش في الدماغ، لكنهم توصلوا إلى استنتاجات متطرفة منبثقة من بياناتٍ محدودة.
تورد الكاتبة مثلًا أن فريمان ذهب إلى أن اللبد العصبي (أو النيوروبيل وهي مزيج يتكون من أجسام خلايا عصبية وتغصنات العصبونات) هو عضو الوعي، وذلك ادّعاء قوي كيفما قلّبته. وتنوّه الكاتبة أن الفلاسفة سرعان ما استولوا على هذه الأفكار، آخذين حتى أول الدراسات وأبكرها بحذافيرها، وأن هذه الأقوال مآلها أن تصل إلى بعض المنصّات وتقتبس أقوالًا من شخصياتٍ غير مختصة علميًا، لأن الشواش غالبًا ما تولى معاملة يصاحبها تبجيلٌ شبه روحيّ. لذلك يجب على الباحثين التقدّم بتؤدة وعناية إن أرادوا أن تؤخذ مساهماتهم بجدية.
ليس البحث عن الشواش أمرًا شاعريًا بحتًا. تذكر الكاتبةً أقوى دليل متوفر حاليًا بين أيدينا، ويأتي من خلايا منفردة: المحور العصبي العملاق لحبار مثلًا، يعمل بوضعين مختلفين (وضع الراحة ووضع الإطلاق المتكرر)، ويعتمد هذا على تركيز الصوديوم الخارجي. وبين هذه الوضعين النقيضين، يُظهِر نموذج نتوءٍ غير متوقع مشابه لسلوك التوهان لمسارٍ شواش قبل أن يستقر لنمطٍ من الجواذب. وتقول الدراسة: إنه مع تطبيق مدخلاتٍ دورية، يستجيب المحور العصبي العملاق بمزيجٍ من النشاط المتذبذب والشواش. هناك شواش في شبكات الخلايا أيضًا، ويمكن للخلايا العصبية الموجودة في قطعةٍ من جلد الفئران بين الأنماط المضطربة والشواشية لتمدد الجلد.
يمكن إيجاد أدلة أكثر على نظرية الشواش في الجهاز العصبي على المستوى العالمي لنشاط الدماغ. الاستعارة المناسبة هذا لهذا السلوك تتمثل بلوح حديد. يمكن للإلكترونات على لوح حديد أن تشير في أيّ اتجاه في أيّ وقت (وبتعبيرٍ فيزيائي أدق، يمكن للفّها المغزلي أن يشير باتجاه ما)، ومثل المغناطيسات الصغيرة يمكن للفّات أن تؤثر على بعضها البعض. حينما يكون اللوح الحديدي باردًا لا يتوفر طاقة كافية للتغلب على تأثير اللفّ المجاور، وتتوحد اللفّات في تجاه واحد مشكّلة مغناطيسًا صلبًا.
حينما يكون اللوح الحديدي حارًّا، تحمل كل لفّة طاقة كافية لتتجاهل نفوذ جيرانها، وتغدو اللفّات غير منتظمة في اللوح الحديدي. حينما يكون اللوح الحديدي في النقطة المنتصف ما بين الحارّ والبارد، يتشكّل ما يُسمّى بـ«النظام الحساس». يتميز النظام الحساس بالنطاقات المتذبذبة لمناطق المتماثلة اللفّات والتي تظهر أعلى ارتباطات ديناميكية ممكنة، أي أفضل توازن ما بين قدرة اللفّات على التأثير على جيرانها وقدرتها على التغير أيضًا.
يحتمل أن تفيد الحالة الحساسة الدماغ إلى حدٍ كبير؛ إذ تسمح له باستغلالِ كلّ من النظام واختلال النظام في حساباته، وذلك عبر استخدامِ شبكةٍ زائدة بديناميات كايوس غنية وسريعة، ومهمة بيانات منظمة لرسم خريطة حالة الشبكة بثبات حتى المخرجات. وتشرح الكاتبة أنه لا يمكن الحفاظ على الحالة الحساسة بالحرارة – كما في الاستعارة أعلاه – بل بتوازن الإثارة والتثبيط العصبيين. إذا مال الميزان باتجاه مزيدٍ من التثبيط، «سيتجمّد» الدماغ ولن يحدث شيء، وإذا ما زادت الإثارة العصبية عن حدّها المفروض، سينحدر الدماغ إلى الشواش. النقطة الحرجة الحساسة تماثل أنماط الجواذب هنا.
يستغلّ الدماغ كلًا من النظام واللانظام ضمن الحالة الحساسة؛ إذ يحتفظ بتوازنٍ دقيق ما بين الإثارة العصبية والتثبيط العصبي؛ لأن زيادة التثبيط تجمّد الدماغ فيما تؤدي زيادة الإثارة العصبية إلى الانحدار إلى الشواش. تمثل النقطة الحرجة لهذا التوازن نمطًا جاذبًا مثاليًا.
كيف يمكننا معرفة إذا ما كان الدماغ يعمل في هذه النقطة الحساسة أم لا؟ تحكي الكاتبة عن الدليل الأول الذي نعرفه، وهو بنية الإشارات المولّدة من نشاط المليارات من الخلايا العصبية للدماغ. يمكننا قياس قوة النشاط الكهربائي للمخ بترددات التذبذب المختلفة. وقد اتضّح أن قوة النشاط تنخفض مع عكسِ تردّد هذا النشاط، على المنوال المميز للأنظمة المتوازنة عند نقطتها الحساسة. وحين يُبعد الدماغ من نظام تشغيله المعتاد بعوامل عقاقيريّة، يفقد عادةً كل هذه العلامات المميزة وتنخفض كفاءته على ترميز المعلومات ونقلها.
مُخ يستظلّ من الفوضى
اعتبر الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز والطبيب النفسي بيير فيليكس غوتاري بأن وظيفة المخ الرئيسية هي حمايتنا – مثل المظلّة – من الفوضى، ويبدو أن المخّ فعلها عبر استغلال الشواش. يمكن الاعتماد على الشبكات العصبيّة اعتمادًا كاملًا إلى حدّ يكاد يقارب المثالية، كما هو الحال مع القلب النابض. تنشأ علاقة تكافلية ما بين النظام واللا نظام، وقد يهيم عمل العصبون بنمط شواشيّ إلى أن تدفعه الذاكرة أو الإدراك إلى أحد الجواذب، وعندها ستعمل المعلومات الحسية على «تثبيت» الشواش.
في الواقع يقلل تقديم الحافز للتباين في عمل العصبونات وذلك في نطاقٍ كبيرٍ من الأنواع والأنظمة المختلفة، كما لو أن هناك نظام كايوسيّ عالي الأبعاد قد شُدّ إلى جاذب. من خلال «ترويض» الشواش، قد تمثل الجواذب الاستراتيجية المثلى للحفاظ على الجدارة بالثقة ضمن النظام الحساس. وقد أظهرت الدراسات النظرية والتجريبية الحديثة لشبكات كبيرة من العناصر المتذبذبة المستقلة قدرة النظام والشواش على التعايش بوئامٍ مذهل، فيما يسمّى «حالات الكيميرا».
تقول الكاتبة أيضًا: «إن منهج البحث الحالي في علم الأعصاب يعامل الخلايا العصبية مثل وحداتٍ حاسوبية ثابتة في نقاطٍ من الزمن، وليس باعتبارها أعضاءً في كيانٍ ديناميكي متغير، وهو ما قد يجعل البحث يفقد النقطة الأهم. إذا ما كان للكايوس دور مهم في الدماغ، لن تعمل الحسابات العصبية على هيئة قراءات ثابتة، بل على هيئة مسار ديناميكيّ عالي الأبعاد فيما ينسّق الدماغ رقصته الذاتية المصممة داخليًا بإتقان».
تعرّج الكاتبة على مشروع «كونكتوم» الذي يُصرف عليه مئات الملايين من الدولارات لتُبنى خريطة شاملة للوصلات العصبية في المخ، يشمل ذلك رسم خريطة لجميع الوصلات العصبية في الجهاز العصبي للعضيات. وتستشهد الكاتبة بآراء علماءٍ مثل إيف ماردير، بأن تعقيد الدوائر في الدماغ ستجعل الخريطة الهيكلية للدماغ غير مفيدة بالقدر الذي نتمناه.
تدعو الكاتبة أيضًا إلى فهم أثر الشواش في الدماغ، بما في ذلك النظر إلى بعض الاضطرابات باعتبارها أمراضًا ديناميكية، مثل نوبات الصرع التي تسمّيها الكاتبة مثالًا دراماتيكيًا بارزًا لفشل الشواش المحتمل. قد تقدّم نظرية الشواش دليلًا على صحّة الدماغ أيضًا، وتذكر الكاتبة مثالًا على ذلك خلايا إنتاج الدوبامين للقوارض المبتلاة بآفات الدماغ إذ يظهر لديها كايوس أقل في قواها المحرّكة من نظيراتها من القوارض الصحية، وذلك يمكن أن يحمل آثار إيجابية في تشخص وعلاج اضطرابات باركنسون وغيرها من الاضطرابات المرتبطة بالدوبامين.
وصف المؤرّخ والخبير الاقتصادي موراي روثبورد نظرية الشواش بأنها «تدمّر الرياضيات من الداخل». تدحض نظرية الشواش الدافع الإنساني للتبسيط، مًبعِدةً العلاقات الخطية الواضحة التي نسعى إليها بالطبيعة ليحلّ مكانها الفوضى وما هو مستعصيٌ على التنبؤ. وبالمثل، تقوّض نظرية الشواش في الدماغ النماذج الكاريكاتورية السطحية للسلوك الإنساني. غالبًا ما يصوّر الاقتصاديون البشر على أنهم «عملاء عقلانيون»، أو آلات حاسبة مهرة تخطط لمصالحها الشخصية المستقبلية. لكنا لا نستطيع حقًا أن نتصرف بدافع المصلحة الذاتية – بالرغم من منطقية ومعقوليّة هذا الفعل – لأننا غير ماهرين في التنبؤ بها. كيف يمكننا فعل ذلك في نهاية المطاف؟ تجيب الكاتبة: هذا هو بالتحديد الفشل الذي يشكّلنا على النحو الذي نحن عليه.
المصدر: ساسه بوست