أسماء السكاف تكتب: بلاد الشمس المشرقة
استلقى على الرمال الناعمة باسترخاءٍ تام متوسدا يديه مغمضاً عينيه تاركاً أشعة الشمس الدافئة تلسع وجنتيه بحنان مع نسمات الهواء التي تهب بين الحين والأخر، يفتح عينيه بكسلٍ ليرتشف رشفاتٍ من العصير الذي بجانبه، ينظر إلى السماء لا يرى سوى وجه كارينا بين سحب الصيف الخجلة الصغيرة، هاهو الآن في هذا البلد الحلم يتذكر آماله وأحلامه مع خطيبته وكيف خططا بأن يسبقها ويأتي للعمل هنا في هذا البلد الذي يغتني ويثرى كل منيقدم إليه، قبل ثلاث سنواتٍ من الآن كان يجلس مع كارينا في إحدى الأراضي الفارغة في بلدهم، أرضٌ صغيرة نوعاً ما مطلة على بحيرة صغيرة تحيطها الأشجار من كل الجوانب تقريبا، رسمت كارينا رسمةً غير احترافية لمنزل مكون من طابقين له شرفة كبيرة وقالت: ستكون هذه الشرفة في غرفتنا، وغرفة الأطفال ستكون في الطرف الآخر، اعترض راهان وأشار بيده إلى الورقة وهو يقول: غرفة الصغار ستكون هنا أقرب لغرفتنا، وقفت كارينا ورفعت يديها كأنها ستحلق وأغمضت عينيها ودارت بمكانها : متى سينتهي بناء البيت يا راهان أعطني وقتاً وزمناً محددين، بحب وحماس قال لها بأنه ينتظر رداً ليوقع عقد العمل خلال يومين وبالتالي سيكون سفره خلال مدة لا تتجاوزالأسبوع ليباشر عمله هناك ويبدأ بتجميع المئات لتصبح ألوفا ويبدأ ببناء بيت الأحلام الصغير فورا.
بعد يومين من جلوسهما وتخطيطهما رنَّ هاتف راهان وأخبره صاحب المكتب بأن يأتي لتوقيع العقد فصاحب الشأن أتى من تلك البلاد ليرى من من المتقدمين للعمل يصلح وبحسب سيرة راهان الذاتية وشهادة الحاسوب التي حصل عليها كانت فرصته للعمل كبيرة، وقّع العقد واستلم تذكرة السفر التي جمع ثمنها وثمن التقديم على هذه الوظيفة من المبلغ الذي حصل عليه بعد بيعه لآخر بقرة من أبقار والده واعداً إياه بتعويضه عنها بأكثر من بقرة قريباً جداً، تذكرة السفر كانت لليوم التالي وبسرعة جمع القليل من ثيابه اللائقة للسفر وضعها في الحقيبة وبدأت مراسم الوداع في القرية، ودعوا راهان الشاب المرح الطموح ولا يخلو الأمر من بعض نظرات الغبطة والحسد ربما من بعض شباب القرية المقاربين له في السن.
أقلعت الطائرة ووصل راهان مع مجموعة من الشباب، عرف منهم خلال الرحلة أن وضعهم مشابه لوضعه وأنهم دفعوا مادونهم ليحصلوا على هذا العقد وهذه الرحلة.
وصلت الطائرة واستقبلهم أحد الرجال الغير ناطقين بلغة راهان وزملائه يرافقه شاب ضئيل الحجم يتحدث اللغتين بمثابة المترجم، رحب بهم وأخبرهم بأن باصا خارج المطار ينتظرهم بعد استكمال أوراقهم، طلب منهم تسليمه جوازاتهم لاستكمال إجراءات الإقامة وبحسن نية وثقة أعطاه القادمون الجدد جوازاتهم، وصل بهم الباص إلى إحدى المناطق المكتظة ووقف أمام عمارة قديمة جدا تشبه العمارات التي في بلادهم لا كما كان يرى في التلفاز والصور من(فلل) وبيوت فاخرة، نزل مع من معه وقادهم الرجل إلى غرفة في إحدى شقق العمارة، كانو يمشون خلفه كالتائه الذي يمشي خلف دليله ربما بصدمة من الوضع الذي رآه فالشقة ذات الحجرتين يجلس فيها مايزيد عن الثلاثين رجلا بأسرة وفرشاتٍ أرضية وملابس متناثرة ومعلقة هنا وهناك، أشار لهم إلى أسرتهم وعلاقة ثياب معلفة على الحائط قرب السرير ومشى، نادى راهان وسأل: ماذا أفعل الآن ماهذا المكان، ابتسم له أحد الرجال الجالسين محاولاً طمأنته: انتظر للغد وسيخبرونك بمكان عملك من الصباح الباكر، هدأ قليلاً وقال: إذا هذا مكان مؤقت لن نبقى هنا، هز الرجل برأسه بشكلٍ يوحي أنه فهم تماما ما كان يظنه هذا الشاب المتحمس وقال: بل منزلك مرحباً بك في منزلنا الجميل، نتشارك العيش هنا.
في الصباح الباكر دخل ذات الرجل الذي استقبلهم في المطار حاملاً بيده عدة (أفرولات) صفراء اللون، وناول كل واحدٍ من الشباب الجدد زيه وأشار لأحد ما ليترجم لهم بأن يلبسوه سريعاً ويتبعوه، بغضون دقائق كان الجميع معه في باص صغير مرتدين هذا الزي السيء لوناً وقياساً وقماشاً، وصل بهم الباص إلى أحد الشوارع الداخلية لمنطقة تبدو أنظف وأرقى بكثير من المكان الذي يسكنون فيه، وبمعاونة من يفهم اللغتين قليلاً نزلوا وأعطى كل واحدٍ منهم مكنسة ومجرفة وفهموا من كلامه أن المطلوب هو تنظيف هذا الحي بأكمله وسيعود ليقلهم عند الساعة الثانية عشر، مشى الباص وترك القلق والتوتر والحيرة على وجوه الشباب اللذين صار اسمهم (عمال) ربما فقدو لقب الشباب أو الرجال أو الموظفين، فالجميع هنا متفق على كلمة عمال وبعض عديمي الأخلاق والتهذيب ينادونهم ب (زبّال) .
مشى راهان بمكنسته ومجرفته بعيداً عن الجميع، جلس على أحد الأرصفة وحيدا محاولاً استيعاب الوضع وفهم الأمور، فهمَ تماماً ما يحدث وأدرك الوهم الذي عاشه تماما ولكنه يُحاول عدم التصديق، تذكر كلام صاحب المكتب عندما سلّمه المال قال له: ستشكرني يا راهان بعد أن تجلس خلف مكتبك هناك وتباشر عملك كما ترى في الأفلام..!! أتُراه كان يعلم ما يحصل معي الآن، عامل نظافة !! وشهادة الحاسوب التي طلبوها مني لٍمَ ؟ لأنظف الشوارع بطريقةٍ ذكية ؟ ماذا سأقول لكارينا الآن؟ هل راتب عامل النظافة هنا مساوٍ لراتب تقني الكمبيوترات؟ .
بقي راهان على نفس الجلسة على الرصيف دون انتباهٍ للوقت إلى أن جاءه أحد العمال الآخرين وقال له: ألم تُنه تنظيف ما حولك؟ الباص على وشك الوصول، انتبه راهان أنه على نفس الجلسة منذ أربع ساعات تقريباً، وقف وقرّر بأنه لن يُخبر أحدا في بلده عمَّأ جرى له سيضع نفسه بموضع الأحمق الكبير أو المغفل، لو عرف أحد ما، لا يريد أن يسقط من عيني حبيبته، سيكتفي بالسؤال عن الراتب ويجمع ما يمكنه منه ويعود.
لسعت وجهه ضربة قوية من شعاع شمسٍ جاءه ليوقظه من ذكرياته وتأملاته، هاهو الآن بعد ثلاثة أعوام يستلقي على الشاطئ كما كان يحلم ولكن بشكلٍ مختلف، لم يعلم أحدٌ هناك بشيء، أخفى الأمر كما أراد ويُرسل الأموال القليلة التي يتقاضاها مباشرة لكارينا جزء لتدخره ولوالديه جزء ليعوضهم عن أبقارهم ولا يبقى معه لا درهم ولا دينار ليعيش عيشةً تليق بالبشر، الناس هنا لطفاء خيرون ماعدا من يعمل تحت إمرتهم، يتصدق البعض بطعام والبعض بقليل من النقود التي تكفي أحيانا لشراء شطيرة وأحيانا لا تكفِ وهكذا يعيش، حاولَ الحفاظ على ماء وجهه ولكن الثمن غالٍ، طارت أحلامه التي كان يحلم به وفقد جزءاً من كرامته.
راهان شخصٌ حقيقي ظُلم وخُذل وسُلبت منه أحلامه مع سلب جوازه المحتجز عند صاحب الشركة التي يعمل بها، هل ضعف شخصيات البعض تُعطي حقاً للمتنفذ أو المسيطر بأن يظلم ويُحرك من أدنى منه كأحجار الشطرنج؟
ربما لو كان راهان أكثر جرأة لاستطاع العودة ومواجهة الواقع ومواجهة انتقاد وربما سخرية البعض من خسارته ولاستطاع تحقيق حلمه والبدأ من جديد.
أسماء السكاف