كتاب أكاديميا

أسماء السكاف تكتب: أنا بعيونهم

 

انتهت من ارتداء البدلة الرياضية باللون الرمادي الفاتح، ثم وقفت أمام المرآة تأملت سحنتها الباهتة وضعت طرف أصبعها على أحد آثار الحبوب على وجهها بمحاولةٍ منها لإخفائها، استدارت أمام المرآة ناقمة على جسدها الهزيل النحيل متمنية لو كانت أكثر امتلاءً أو قبولاً على الأقل ثم رفعت بصرها باتجاه شعرها المجعد جدا والطويل جدا أيضا، حاولت حزمه ثم أفلتته بسرعة وكأنها ارتاعت مما رأت، وبصوتٍ مسموع قالت لنفسها وهي تربط حبالحذائها الرياضي: لا داعي للمساحيق فلن تُجمل ما ليس جميلا من الأساس.

في أحد محلات القهوة الهادئة تجلس ثلاثة من الصديقات بانتظار رابعتهن فالقهوة لا تحلو إلا بالمشاركة والحديث مع من تألف، دخلت وبابتسامة خجولة حيَّت صديقاتها من بعيد متجهةً إليهن، بنظراتٍ خفية وقعت أبصار من في المكان على هذه الشابة الرشيقة بجسدً رشيق طبيعي يخلو من التعرجات والامتلاءات التي امتلأ بها العالم، شابة ببشرة ناصعة صافية لدرجة أن أثر حبة بسيطة يبدو عليها لن يمنع أحداً من ملاحظة صفائها، بدت أجمل لصديقاتها كلما اقتربت وانعكست أشعة الشمس على شعرها المجعد بطريقة غجرية ناعمة وكأنه أشعة شمسٍ بنية متموج بطريقة ربانية لا يُمكن تقليدها.

أخبرتها إحدى صديقاتها أن اللون الرمادي بثيابها الرياضة يليق بها جدا، ابتسمت لها دانة ابتسامة باهتة وأعطت نفسها أحد القرارات بأن صديقتها تُجاملها حتماً لتُشعرها بالقبول فقررت أيضا بينها وبين نفسها بأنها لن ترتدي اللون الرمادي مرة أخرى، دانة رغم جمالها الواضح وشكلها الذي وهبها إياه الله بأحسن حال كانت فعلاً تشعر بأن جميع من يمدح شيئا فيها فهو مُجامل بل وقد يصل بها الأمر لتتهمه بالنفاق، الفرق بين ما تراه أعين الناس عند النظر لها شاسعٌ جدا عن الشكل الذي ترى نفسها به.

ندى ذكرتني بتجربة قام بها أحد الرسامين أظنه أوروبي، قام برسم أشخاصٍ بناءً على وصف أنفسهم لذواتهم شكلاً،ثم قام مرةً أخرى برسم نفس الأشخاص ولكن بناءً على وصف غيرهم لهم، النتيجة كانت صادمة بالنسبة لي وأظن بالنسبة لأغلب من شاهد هذه المقاطع بعد أن تم عرض الرسمتين لذات الشخص بجانب بعضهما، فمعظم من رسمهم الرسام وصفو أنفسهم بأوصافٍ باهتة تخلو من أي ملامح للجمال بل ودميمة بعض الشيء أحياناً بينما جاءت وصوف غيرهم لهم جميلة تضج بالحياة والتفاصيل الجميلة والابتسامات المشرقة وتفاصيل جميلة كشعر مميز أو ابتسامة جميلة أو عينان واسعتان هادئتان وغيرها من الوصوف الجذابة، رغم أنه شكلٌ واحد لشخصٍ واحد، لِمَ يرونَ أنفسهم بهذا الشكل؟ لِمَ يغلب على البعض منا هذا الشعور بتدني الذات؟ أو عدم الثقة بالنفس هل هو شعورٌ فطري ينمو مع الإنسان؟ وأجزم أنه ليس كذلك أم أنه فعلاً كما سمعت من إحداهن ذات مرة أن الإعجاب بالذات وحب النفس يتعارض مع التواضع؟ وبالتالي يسعى من يريد أن يتواضع بأن يكره ذاته أو يرى نواقص نفسه، أم أنه يأتي بأسبابٍ وتراكمات أفعالٍ وأقوالٍ مسبقة؟

بالنسبة لندى، الفتاة الجميلة جداً بشهادة كل من رآهاوالتي يُضفي حياؤها جمالاً على جمالها فقد عاشت في بيئةٍ تُسمى (البيئة الناقدة) وهي الأسرة أو المحيط الذي يسعى لنقد كل شيء تقريباً، بل وحتى تسعى هذه البيئات لمعالجة الأخطاء بالنقد الذي يُعتبر حتماً خطأً أكبر من جميع الأخطاء التي قد يرتكبها الصغار، ندى في طفولتها زاد وزنها قليلاً ومن (حب) أمها لها بدأت بنقدها علّها تكره هذه الزيادة فصارت تركز لها على ما امتلأ: انظري لأسفل ذقنك كيف أصبح، انظري أكتافك أصبحت كأكتاف رجل، اختفت عينيك بين خديك، وغيرها من التعليقات التي سمعتها ندى كثيراً  حتى ألفتها وصارت لا ترى غيرها في شكلها فكلما وقفت أمام المرآة قفزت كلمات أمها أمام عينيها حتى كرهت شكلها، شعرها المجعد الذي تسعى المئات من النساء حول العالم لأن يحظين بمثله وتدفعن الأموال لتحصلن على إطلالة كإطلالة ندى الطبيعية كان لا يُعجب والدها أو أنه يُعجبه لا ندري، ما يهم أنه كان يعلقُ لها على شعرها منذ وُلدت تعليقاتٍ يحسبها مزحاً ودعابات وهي كالسهام التي وقعت في أذني ندى ومع الزمن انتقلت لشعرها أو (كشتها: أحد الألقاب المفضلة لوالد ندى في طفولتها).

كبرت ندى وقد تكون أمها وصلت لما كانت تريد أن تصل له في النهاية فكرهت ندى الطعام وخفَّ وذهب كل الوزن الزائد الذي اكتسبته ولكن هل وعت أمها ما حدث بنفسية فتاتها المُراهقة؟ هل كانت الأم تعِ أنَّ الكلمة مع هذه الأعمار يجب أن تكون موزونة، ليسَ مطلوباً منها أن تكذب على صغيرتها ولا أن تُجاملها، كل ما هو مطلوب أن ترى الجميل فيها وتمدحه، فمدح الجميل وذكره يُخفي السيء ويُضمره، في كل موقفٍ يمرني خصوصاً مع أعمار الناشئة (المراهقين) يحضرني موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرَّ بشابٍ يعزف ويُغني لم يغضب، لم يكسر، لم يذم، لم ينقد، بكل لطفٍ أبوي تربوي قال: ما أجمل هذا الصوت لو كان في القرآن.

ماذا يضرنا لو استخدمنا هذا الأسلوب خصوصاً مع المخلوقات الصغيرة التي تكتشف العالم للتو فمن الطبيعي أن تعثر وتخطأ، النقد والتعليق يهدم النفسيات، أؤيد رأي الدكتور مصطفى أبو السعد الذي قال: لا يوجد شيءٌ يُسمى نقد إيجابي ونقد سلبي، النقد كله نقد وكله سلبي.

وكما يُقال عادةً الزائد أخو الناقص بمعنى ضرر الزيادة كضرر النقصان تماماً، نرى حولنا من يُبالغ بمدح ذاته بشكل ملحوظ حتى يُنفر الناس من حوله أو أنهم يضحكون عليه ويُشفقون، كحال العديد من مشاهير العالم الافتراضي ممن يظنون أن مبالغتهم بمدح ذواتهم هو نوعٌمن تقدير الذات المرتفع فترى من يصف نفسه بالأشعار ومن تحلف وتُقسم بألا أفضل منها خُلقاً وشكلاً !!

في كلتا الحالتين هو أمرٌ نفسي بحت قد يكون عائداً لحدثٍ ما تأثر به الشخص في طفولته أو لموقفٍ حدث في الكبر أو لسبب آخر، الانسان الطبيعي السليم يتأرجح على حبل الوسطية في كل أموره بلا إفراطٍ ولا تفريط بلا زيادةٍ ولا نقصان، أُحبني فيُحبني الناس، أكرهني فيكرهني الناس، المعادلة بسيطة جدا: ثق بقدراتك ولا تترك الثقة تعميك أو تمنعك عن تنمية هذه القدرات، ثق بشكلك الذي وهبك الله إياه سترى الجميل فيما وهبك سترى المميز والمختلف ستشع عينيك حباً لنفسك أولاً ولمن حولك ثانياً.

ولكل أم ولنفسي أولاً: فلنتذكر أن كل كلمة تخرج من أفواهنا لصغارنا لها محل في قلوبهم وعقولهم علينا الحذر، الفتيات تحديداً بحاجة لمدح أشكالهم كحاجتهم تماما لمدح شخصياتهم وتصرفاتهم فلنمدح بلا مالغات وبلا مجاملات نمدح ما نراه حقاً يستحق المدح.

 

 


займ на карту быстро

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock