كتاب أكاديميا

أحمد توفيق العنزي يكتب: البطلان والإيمان

 

 

 

 

 

في العام ١٨٠٠ قام العالمان الفيزيائي ألبرت مايكلسون والكيميائي إيدوارد مورلي بعمل تجربة فيزيائية لقياس سرعة الضوء القادم من الشمس إلى الأرض خلال دورانها حول الشمس. لقد كانت فرضية كلّ منها أن سرعة الضوء الساقط على الأرض تتغير بتغيّر موقع الأرض حول الشمس وبذلك يثبتان أن الضوء يحتاج إلى وسط مادي لينتقل. استغرقت التجربة اكثر من عام، واستغرق إعدادُ جهاز القياس الدقيق (الذي يُدعى إنفيروميتر) اعواماً. بعد الجهود المتواصلة، وسلسلةٍ من التجارب والقياسات، وجدَ العالمان أنَّ فرضيتهما التي استندا عليها من أجل الشروع في هذا العمل كانت فرضية باطلة. كانت خيبة أمل كبيرة ، فقد حدث عكس ما توقعاه تماماً إذ كانت سرعة الضوء ثابتة في كل حدب وصوب وموقع حول الشمس.
كانت أعظم فرضٍ باطلٍ عرفه البشرية، إذ أثبت عدم حاجة الضوء إلى وسطٍ ليتنقل كما تفعل الموجات الأخرى !! .
تداعت الجهود العلمية لإثبات صحة الفرض الباطل وجهود أخرى تثبت أن الجهاز المستخدم كان يعاني خللاً جوهرياً إدى لإبطالِ الفرضية بشكلٍ غير علمي. كان هذا الإكتشاف الغير مقصود قد خلّف آلافا من البحوث العلمية (التي كانت تضن في متنها أن الضوء يحتاج إلى وسطٍ لينتقل) عرضةً للبطلان كذالك، فانبرى العلماء دفاعاً عن معتقداتهم (ان الضوء يحتاج لوسطٍ لينتقل) وكان أولهم العالمان لورينتز وفيتزجيرالد إذ ادعى كلُّ منها أن الجهاز عانى قصور وانكماشاً فيزيائياً مما أدى للحصول على نتائج متشابهة في كل مرة، لكنّ كلّ تلك الجهود لم تنجح قط.
بعد ١٠٠ عام جاء آينشتاين ليثبت أن الضوء لا يحتاج لوسط لينتقل فحوّل هاذا البطلان إلى بطلانٍ مطلق.
وتوالت بعد ذلك ثورات علمية “سليمة” بجهات أخرى تسبرُ أغواراً وتَحلُّ أحجيات استمرت لغزاً محيراً. لقد كان ذلك بمثابة تصحيح نظرٍ للفيزيائيين، وصفعةٍ قاسية حرفت مسار المجتمع العلمي وصرفت نظره عن التفكير في هذا الاتجاه. لقد اسهم ذلك في جعل العديد من البحوث منعدمة وإقرار أخرى صالحة عاد العلماء إليها بعد أن جعلوها حبيسة الأدراج.
لكن ما يثير الحفيظة هو الجهود العلمية والفلسفيةُ التي ذهبت ادراج الرياح لمجرد سقوط ركنٍ من أركان تلك النظرية. لقد جعل هذا البطلان من البحوث السابقة أقلّ قيمةً من الورق التي كتبت عليه فازدرت عقولاً وأهانت أخرى. كيف يعترفُ ذلك العالم الجليل بخطأه وكيف يعود مرة أخرى للمجتمع العلمي وكيف يستعيد ثقة الجمهور العلمي به، بعد أن قام المجتمعُ العلمي ببخس جهده. استدرك معي عزيزي القارئ، أن كل ما عمله هو إيماناً منه بتلك النظرية وسعياً منه لسبر أغوارها، لكن إيمانه المطلق بها جعل من بطلانها أمراً مستحيلاً فاختُزِلت هذه الأفكار في عقله الباطن وأصبحت تُسيِّر استنتاجاته واستنباطاته. هل يستحقّ ذلك العالم ما حصل له؟.
إن مسألةَ الإيمان العلمي والإستناد العلمي مسألةٌ فلسفية لا تتعلق بالمعتقد بأي شكل، ولكن إلباسها ثوب المعتقد يجعلها عُرضةً للإسقاط في أي لحظة بخلاف لو كانت مسألةُ بحثٍ وعرضٍ وتحليل.
ان كثرة المعتقدات في منظومةِ عقلك تجعل من تفكيرك نمطياً وآيدلوجيا يسير ضمن نُسقٍ محددٍ معدٍ مسبقاً وتحدُّ من قدراته وملكاته التي خُلِق من أجلها. إن المعتقد بمثابة سدٍ منيع لنهر الأفكار المنفلت في مخيلتك وعقلك، يكون صمّام أمان لاستقراره،

وسؤالنا في هذا الصدد، هل خُلِقَ عقلُك ليكونَ مُستقراً ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock