أخبار منوعة

من أكياس التبغ لبذلات الفضاء.. كيف تحول “السّحاب” من اختراع فاشل إلى رمز للأناقة؟

 
نستخدمه كل يوم، وهو اختراع رائع غيَّر شكل حياتنا، من تسهيل إغلاق البنطلونات، إلى كونه طريقة آمنة لإغلاق أولى بدلات الفضاء، تخيل ما هو؟
إنه الزمام المنزلق الذي يطلق عليه بالعربية الدارجة اسم “سحّاب أو سوستة “ كان من الممكن -وكان يجب- أن يفشل، ففي النهاية، على الرغم من بساطته، استغرق تصميمه وقتاً طويلاً للغاية، حسب تقرير نشرته BBC .

ويقول المؤرخ روبرت فريديل، الذي يعمل في جامعة ماريلاند، ومؤلف كتاب “Zipper: An Exploration in Novelty” (السحّاب: بحث في التجديد)، يقول إنَّه من الممكن أن نقول إنَّ اختراع السّحاب قد استغرق وقتاً أكبر من “اختراع الطائرة أو الحاسوب الإلكتروني”.
من فشل إلى آخر

واستغرق تطوير التصميم، حسب تقرير BBC، عقوداً من الزمان؛ إذ جرَّب مخترع تلو الآخر حظه لتسهيل إغلاق ملابسنا، حيث يقول المهندس في جامعة دوك بولاية كارولينا الشمالية هنري بيتروسكي: “تتقدم التكنولوجيا بالاستجابة للفشل، والفشل هنا ليس فقط أن ينكسر السّحاب، وإنما أن يفشل في العمل بسلاسة ودون الحاجة للتفكير”.
ربما يكون السّحاب الأداة الأكثر انتشاراً في حياتنا، لذا فهو يعتمد على صناعة تتسم بالدقة القصوى، وعلى الرغم من مرور قرن من الزمان، فهو لم يصبح بعد الطريقة الأسهل أو الأرخص لإغلاق الأشياء.
لكنَّ فريديل يقول إنَّ السّحاب يستحق المزيد من الاهتمام والتقدير، ليس فقط لأنه مثال واضح تماماً على الافتتان المعاصر بالاختراعات الميكانيكية؛ بل لأنه قد صار أيضاً رمزاً مهماً للحرية والإمكانية الجنسية، حسب قوله.
ولم يشتهر أي من المخترعين الذين عملوا على تصميم السّحاب، ولم يكن أول تصميم للزمام، الذي سُجِّل باسم إلياس هاو عام 1851، وهو من اخترع أيضاً ماكينة الخياطة، لم يكن في الحقيقة تقدماً عظيماً بالنسبة لمشابك “الخُطاف والعين” (Hook-and-eye)، أو للأزرار قديمة الطراز.
فقد كان اختراع هاو، أطلق عليه اسم “قفل الملابس المستمر الأوتوماتيكي”، صعب الاستخدام، وعُرضة للصدأ، أو للتمزق والانفتاح فجأة في أوقات غير مناسبة، وكان أيضاً مكلفاً جداً، لدرجة أنه قد ضاعف سعر البنطلونات.
لم تلقَ الفكرة أي تقدير أو ملاحظة، حتى اخترع ويتكومب جودسون القاطن في شيكاغو، بعدها بـ44 عاماً، أداة مشابهة سماها “مشبك قفل أو فتح للأحذية”، وسَوَّقها.
وكانت تلك الأداة أكثر تعقيداً من الأداة التي نستخدمها اليوم، لكنها كانت تطوراً في نظام المشابك، فبعدما كان الشخص يحتاج إلى فتح، أو إغلاق، مشبك تلو الآخر، مكَّنت أداة جودسون الشخص من أن يسحب السّحاب لأعلى أو لأسفل، لإغلاق الحذاء أو لفتحه.
وعلى الرغم من محاولات تسويق الاختراع في معرض شيكاغو العالمي عام 1893، كان نجاحه التجاري محدوداً.
ويُمكن القول إنَّ جودسون لم يكن شغوفاً باختراعه فبدلاً من العمل على تحسين السّحاب، قضى جودسون معظم حياته في تصميم “ترام يعمل بالغاز المضغوط”، وهو اختراع انتهى بالفشل.
بداية النجاح 

لنذهب إلى القرن العشرين، حين بدأ جيدون صندباك، مهندس الكهرباء السويدي الأميركي، يعمل في شركةUniversal Fastener.
وبفضل مهاراته (وربما أيضاً بفضل زواجه بابنة مدير المصنع)، صار صندباك المصمم الرئيس في الشركة.
حرَّف صندباك اختراع جودسون، وفي عام 1913 صمَّم “آلة إغلاق بلا خطاف”، وهي التي مهدت الطريق للزمام المعاصر. ورفع صندباك عدد أجزاء الإغلاق في السّحاب من 4 أجزاء في البوصة (واحد كل 6.4 ملم تقريباً)، إلى 10 أو 11 (واحد كل 2.5 ملم تقريباً)، ووضع صفَّي أسنان متقابلين، وأضاف شقاً ونتوءاً لكل سن حتى تتشابك الأسنان، ويمكن سحبها بالمنزلق لتصير قطعة واحدة، وزوَّد الفجوة للأسنان التي يوجهها المنزلق. وسجل صندباك الاختراع باسمه عام 1917، وسماه “المشبك القابل للفصل”.
ولم يتوقف صندباك عند تلك النقطة، فقد صمم أيضاً ماكينة لتصنيع تلك الآلة، وسماها “S-L”، أو “ماكينة بلا خردة”.
كان بالماكينة سلك على شكل حرف”Y”، وكانت تحفر تجويفات في الخامة، ثم تثقب فيها نُقراً، وفي النهاية تثبِّت كل تجويف على شريط قماشي لتصنع سلسلة زمامية متصلة. ونجح ذلك التصميم نجاحاً ضخماً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الدعم المادي من الكولونيل لويس واكر، وإلى حماسة ويلسون وير، الذي كان موظف المبيعات الرئيس لتسويق الآلة الجديدة. وفي أول سنة عمل، أنتجت الماكينة مئات الأقدام من الأقفال كل يوم.
الأحذية

اسم الزمام المنزلق بالإنكليزية (Zipper) صكَّته لاحقاً شركة “بي إف غودريتش”، التي استعملت قفل صندباك في تصميم نوع جديد من الأحذية المطاطية، يُسمى “الجرموق” (وهو حذاء فوقاني يُلبس فوق الحذاء العادي للدفء أو لمنع البلل أو الطين). ويُقال إنَّ غودريتش قد راق له الصوت الذي يصدره السّحاب (Zipping) لدرجة أنه سمى الأداة اسمه، واستمر الاسم منذئذ.
لم تُستخدم السحابات (السوست) الأولى فقط للأحذية؛ بل لإغلاق أكياس التبغ أيضاً. وبعدها بعقدين، بدأ العاملون في صناعة الملابس يستخدمونها، وخصوصاً بعدما أشادت مجلة “اسكواير” باستخدام السّحاب المنزلق في صناعة البنطلونات أواخر ثلاثينات القرن العشرين، وأعلنت أنه “أحدث أفكار تفصيل الملابس الرجالية”.
رمز للتمرد 

بعد الحرب العالمية الثانية، صار السّحاب المنزلق رمزاً للتمرد؛ إذ استخدمت هوليوود السترات ذات الأزمَّة المتعددة التي يرتديها راكبو الدراجات الهوائية، استخدمتها تعبيراً ثقافياً عن طبيعة الشباب المتسمة بالتمرد، مثل الدور الذي لعبه مارلين براندو في فيلم الدراجات الهوائية “The Wild One”.
وفجأة، صار السّحاب رمزاً لثقافة وقحة ومندفعة، ولبداية نزع القيود عن الجنسانية، واستمر ذلك حتى السبعينات، حين أصدرت فرقة “Rolling Stones” الموسيقية الألبوم الشهير “Sticky Fingers”، وظهرت فيه صورة بنطلون جينز بزمام منزلق في الجزء الأمامي.
الانتقال للفضاء

وفي عام 1956، اخترع البريطانيون زماماً منزلقاً لختم حقائب تخزين المعدات العسكرية التي تتضرر من الرطوبة. واكتشفت وكالة ناسا تلك الآلية، وفي عام 1958 صممت أزمَّة محكمة مانعة للهواء للبذلات التي تُستخدم بالأماكن المرتفعة لمقاومة الضغط، واستخدمتها لاحقاً في صناعة بذلات الفضاء الأولية، التي كانت قادرة على إبقاء ضغط الهواء داخل البذلة بعيداً عن الظروف الخارجية. أحد الفروق بينها وبين السّحاب العادي، أنَّ بها غطاء مضاداً للمياه، مصنوعاً من نسيج البُولي إيثيلين المقوى، ملفوفاً حول الجزء الخارجي من كل صف أسنان. وحين يُغلق السّحاب، يكوِّن جانبا الغطاء البلاستيكي المتقابلان ختماً مزدوجاً.
عادةً ما تكون تلك الأزمَّة صلبة، وصعبة الفتح والغلق. استخدمتها ناسا أول مرة في البرنامجين الفضائيين: ميركوري، وجيميناي. ولاحقاً، صنعت نسخة أقوى منها لبرنامج أبولو الفضائي.
وكانت الأزمَّة توضع على الفتحات والأختام الأساسية في بذلات ضغط الطيارين وبذلات الفضاء، وتمتد من حلقة العنق المتصلة بالخوذة، من الأمام أو الخلف، إلى أسفل الحوض، لتسمح للطيار أو رائد الفضاء بارتداء البذلة بسهولة.
وتقول كاثي لويس، أمينة متحف الطيران والفضاء الوطني في واشنطن دي سي: “كانت الأزمَّة مثالية للاستخدام؛ لأنها كانت خفيفة الوزن، وكانت مدمجة في بذلات ناعمة، القماش خامتها الأساسية، ومنحت المرونة لمن ارتدوها”.
لكنَّ بذلات الفضاء الجديدة ليس بها زمام فتح. فقد اعتمد النوع المستخدَم سابقاً على زمامين نحاسيين متينين، كانا يضغطان حشية مطاطية بينهما حين تتعرض البذلة للضغط. وتقول كاثي إنَّ هذا الختم كان موثوقاً به، لكنه كان يتطلب إعادة الاختبار بصفة متكررة في أثناء دورة الإنتاج واختبارات الطيران. وتضيف كاثي: “الختم كان يمكن الاعتماد عليه على المدى القريب، لكن ليس على المدى البعيد”.
وكان التفاعل الكيميائي بين نحاس السّحاب والحشية المطاطية يُتلف المطاط. لكنَّ ذلك لم يشكل مشكلة كبيرة، في المهمات التي كانت تستغرق أقل من بضعة أسابيع، وكانت تتطلب إعادة تطبيق الضغط مرات قليلة دون الحاجة لإعادة الاختبار.
لكنَّ رواد الفضاء المعاصرين يبقون في محطة الفضاء الدولية أسابيع وشهوراً، لذا تعتمد بذلات الفضاء الحالية، التي تستخدم في “الأنشطة خارج المركبة الفضائية” (EVA)، بدلاً من ذلك على ختم صلب، يتكون من قطعتي معدن (تُصنعان عادة من الألومنيوم، وأحياناً من الفولاذ) تشتبكان لضغط حشية مطاطية أو حلقة مستديرة (O-ring). وتقول كاثي: “يتطلب ذلك أن تكون البذلات أثقل بكثير، لكنَّ الختم يمكن فحصه بصفة متكررة، ويمكن استبدال الحلقة عند الحاجة”.
وعلى الرغم من أنَّ ناسا رفضت الأزمَّة المضادة للمياه والمانعة للهواء، يستخدمها الكثير من أفراد القوات المسلحة والغواصين حول العالم، ويستخدم الإطفائيون، وأحياناً العُمال في مصانع الكيماويات، أزمَّة مضادة للنيران وللكيماويات.
اختراعات جديدة

وعلى مر السنين، أُعيد اكتشاف السّحاب المنزلق عدة مرات، مع اكتشاف خامات جديدة مثل النايلون في ستينات القرن العشرين، ومع اختراع الأزمَّة التي تُفتح من الناحيتين.
ومؤخراً، طوَّر المصممون السّحاب تطويراً كبيراً. مثلاً، صممت شركة “بليسوس” البولندية ملابس يمكن تغيير تصميمها وتفصيلها باستخدام زمام خفي. وصنعت شركة “DNS Designs” زماماً مغناطيسياً (لاحقاً، أطلقت عليه شركة “Under Armour” اسم “Magzip”)، وهو يُشبك أتوماتيكياً ويسمح لك باستخدامه بيد واحدة.
ومع ذلك، مهما كان تصميم السّحاب الجديد متطوراً، ومهما اكتشف المصممون استخدامات غير متوقعة له، فنحن نستخدمه دون تفكير، ودون أن نسأل أنفسنا من أين جاء. ويقول بيتروسكي إنَّ هذا ليس مفاجئاً؛ لأنَّ “كلما زاد اختفاء الأداة ، دلَّ هذا على نجاحها نجاحاً أكبر”.
هذا الموضوع مترجم عن هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). 

المصدر:

هافينغتون بوست 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock