أ. د. عبداللطيف بن نخي
أ. د. عبداللطيف بن نخي
مؤشرات جودة التعليم العالي الشائعة في الكويت متعددة ومتنوعة وتتضمن على سبيل المثال كثافة الطلبة في الفصول والمختبرات، ومتوسط تكلفة الطالب الجامعي، ونسبة الخريجين الموظفين خلال سنة من تاريخ تخرجهم، ومتوسط المعدل العام ومعدل التخصص للخريجين، ونسبة المتفوقين من إجمالي الخريجين. وعلى الرغم من أن النتائج الدورية لتلك المؤشرات مشجعة وأحيانا مبهرة، إلا أن واقع خريجينا يؤكد عدم صلاحية تلك المؤشرات لقياس درجة المواءمة بين مهارات وكفايات خريجينا الأكاديمية والفنية وبين احتياجات سوق العمل المحلي. لذلك ينبغي أن يستفيد الجسد الأكاديمي الكويتي من تجارب الدول الأخرى التي استحدثت مؤشرات لإدارة نهضة تعليمها العالي وفي مقدمها جمهورية الصين الشعبية.
في الجزء الاول من المقال تم عرض التجربة الصينية في إصلاح منظومة تعليمهم العالي من خلال استحداث مؤشرات لتوجيه الجهود الإصلاحية وقياس مدى التقدم في علاج الاختلال بين النشاط الأكاديمي ومتطلبات التنمية الطموحة في الصين. الباحثون في جامعة شنغهاي جياوتونغ صمموا نظاما جديدا لتصنيف الجامعات بعد أن تيقنوا بأن المؤشرات العالمية لقياس الكفاءة الأكاديمية لا تتوافق مع طموحاتهم الاقتصادية. الصينيون استبدلوا المؤشرات التي كانوا وما زالوا متفوقين في نتائجها بمؤشرات تسلط الأضواء على المحاور الأكاديمية التي كانوا قد أخفقوا فيها.
القائمون على التعليم العالي في الكويت يجب أن يدرسوا التجربة الصينية ليستوعبوها ويستفيدوا منها في تصميم مؤشرات جديدة لإصلاح تعليمنا العالي. لا يمكننا الاستمرار في تبني مؤشرات عاجزة عن كشف مكامن الخلل في تعليمنا العالي. بل لا يمكننا الاستمرار في قياس كفاءة كلياتنا وفق درجة الرضا لدى سوق عمل خامل وعاطل عن تنمية الاقتصاد الوطني. لذلك يجب علينا تصحيح مفهومنا عن سوق العمل قبل تقويم مؤشراتنا. وهذا الخطوة ضرورية لقطع دائرة العلاقة المتفاقمة بين البطالة المقنعة وبين فساد التعليم.
التقارير المستقلة، كتقرير البنك الدولي الذي صدر قبل شهرين، تشير لاستشراء البطالة المقنعة بين القوى العاملة الكويتية في معظم مؤسسات القطاعين العام والخاص، وذكرت أن التعيينات الدورية في القطاعين لا تتعدى كونها من صور توزيع الثروة على الشعب. الحكومة غير قادرة منذ سنين على خلق فرص عمل حقيقية في العديد من الوزارات والشركات. أقولها بحسرة، بعض جهات التوظيف لا مانع لديها في تعيين مهندس لا يفقه من الهندسة حرفا لأنها ببساطة لن تكلفه بمهام هندسية وقد لا تلزمه بساعات العمل.
ينبغي أن نصحح مسار تعليمنا العالي من خلال ابتكار مؤشرات تقيس كفاءة الخريجين في أداء مهامهم في بيئة العمل الافتراضية المنشودة في خطط الانماء. الخطط المستقبلية منها بدرجة أكبر من الحالية، لأن الدورة الاكاديمية لاستحداث أو تطوير برنامج دراسي ثم تخريج دفعات منه تتطلب مدة أطول من سنوات خطة كاملة. ويعتبر قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة من أفضل الخيارات التي يمكننا استهدافها ضمن استراتيجيتنا لإصلاح تعليمنا العالي. حيث أثبتت تجارب الدول الصناعية، في الشرق والغرب، ان دعم هذا القطاع له مردود اقتصادي كبير فضلا عن كونه الموظف الرئيس لقوى العمل. كما أن برنامج عمل الحكومة الكويتية وخطتها الانمائية السابقة والحالية تشير إلى أهمية تحفيز هذا القطاع في الاقتصاد الوطني ليصبح قاطرة النمو وسبيل الكويت لتنويع اقتصادها. وكذلك تم أخيراً التوقيع على مذكرة تفاهم، بين الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة وبين شركة أمريكية، لإنشاء وتأسيس وإدارة حاضنة أعمال لمشروعات التكنولوجيا في دولة الكويت. العديد من المؤشرات تؤكد بأن قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة سيصبح مشغل رئيس للخريجين الكويتيين ومقصد للمتميزين من الطاقات الشبابية المتخصصة.
علينا نحن الاكاديميين أن نبادر بإعادة تشكيل ملامح تعليمنا العالي ليتوافق ورؤيتنا الوطنية لاقتصاد متنوع، وهذا ما يتطلب عقد ورش عمل لتصميم مؤشرات لتحديد مسارنا الاكاديمي وقياس جودته. الهوة كبيرة بين واقع مؤسسات تعليمنا العالي وبين رؤى خططنا الانمائية، وإصلاح هذه المؤسسات يحتاج للكثير من التخطيط والتنفيذ في بيئة تصون النزاهة في تشريعاتها وتلتزم الشفافية في أنشطتها، كما يستلزم العالي من الهمم الاصلاحية التي قد ندركها إن ذكرنا انفسنا بأن بناء سور الصين العظيم بدأ بطموح كبير قبل وضع صخرتها الأولى بالحجم المطلوب في المكان الصحيح.