كتاب أكاديميا

محمد بن عبدالله الأحمدي يكتب: الحكمة ضالة الباحث في اختيار المنهج البحثي


تعد العلوم الإنسانية كغيرها من العلوم التي تعرضت للعديد من التصورات الفلسفية التي تحاول إيجاد مرتكزات للبحث العلمي، وثوابت تسهم في إنتاج المعرفة العلمية. وبطبيعة الحال فإن هذه الرؤى الفلسفية إنسانية المنشأ، وبالتالي فإنَّ القصور أمر محتوم في ثناياها، فطبيعة الفكر البشري المحدودية في إدراك العالم والوجود وحتى المعرفة ذاتها، أو المحاولة في الوصول لتفسيرات منطقية خاضعة لمعايير السبب والنتيجة. وقد خلقت المخلوقات بمهام ووظائف محددة، لحكمة تخفى أو تتضح للإنسان. ومن سُبل القصور الفكري تواكب التصورات الفلسفية الإنسانية واعتماد ظهور بعضها على جوانب القصور الذي تحدث في سابقتها حين التعامل مع الظواهر.
نعم قد يعزى البعض تضخيم الفلسفية الحديثة في العلوم إلى تقليل النزعة السلطوية للكنيسة الأوروبية في حقبة من الزمن الذي طفح الكيل بالمجتمع بأطيافه المختلفة من هيمنتها على مقومات الحياة الفكرية قبل الاجتماعية للناس. وبالتالي أتحد الفلاسفة والسياسيين من أجل إضعاف المبدأ الكنسي الذي يؤمن بما وراء الطبيعة من عالم، وينشر التعاليم القيمية التي قد لمسها التحريف والتأويل البشري، مما ضر بالتطور العلمي في حقبة من الزمن، خير دليل محاربة العلماء الذين يخالفون مبادئها أمثال العالم الإيطالي غاليليو غاليلي صاحب فكرة ان الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس والذي تسبب وغيره من أبحاثة التي تعتمد على الملاحظة والتجربة في محاكمته ونفيه حتى مات، ومن ثم الاعتذار عما اقترفته تلك المؤسسة في حقه بعد وفاته تخليداً لأفكاره العلمية حينما أدرك العالم نفعها، وإثباتها.
وقد نجحت الفلسفة الوضعية التي أفضل ترجمتها بالعلمية (positivism) في اختراق ذلك العالم بتشكيكها فيما وراء الطبيعة واعتمادها على أن العالم يكمن في الموجود المحسوس، والمستقل عن العقل البشري، وأنه موضوعي، أي يتم إدراكه بالاكتشاف التجريبي ومعرفة القانون الذي يسير وفقه، مما يجعل الإنسان قادر على التحكم وفيه والسيطرة عليه. وقد نجحت في الجوانب المادية من الكون كعلوم الفيزياء والكيمياء والطب والجيولوجيا والفلك وحتى علم الذكاء كدراسة للعقل البشري، ولكنها أخفقت في الوصول للتفسير العلمي رغم تعدد النظريات التي تحاول تفسير الكون والحياة والموت وسبب الخلق ونحوها. وهذا القصور طبيعي من وجهة نظري لمحدودة إدراك العقل البشري. وانتقال هذه الفلسفة إلى العلوم الاجتماعية في عصر الازدهار الأوروبي المادي ولما حققته من نجاحات علمية مبهرة في حقلها العلمي، رغب أوغست كونت عالم الاجتماع الفرنسي في استقطابها لدراسة الظواهر الإنسانية والتعامل مع الإنسان بأنه مكون ثابت، فحين التعرف على قانون السبب فبالإمكان التحكم بالنتيجة. وإنَّ الفلسفة الوضعية قادرة على تنظيم حياة الناس والمجتمعات من خلال المدخل الاستنتاجي السائد في العلوم المادية والذي يقدم الكل عن الجزء، وأن فكر المجتمع مقدم على الفكر الفردي، وبالتالي رأي الوحدة الاجتماعية والوطنية هي الحل في زمن ساد فيه التفكك والاضطرابات السياسية في أوروبا والحملات العسكرية والصراع بين الملكية والليبرالية والجمهورية، والأحزاب العمالية في أوجه مع غياب المبادئ التي يجمع عليها الناس بعد تفكيك المبادئ الكنسية. وهذا أمر فيه استحالة لاستمرارية التطور والنماء الفسيولوجي والفكري والسلوكي للإنسان الذي يختلف عن مكونات الكون المادي من ناحية، ومن ناحية أخرى بأن الكل الذي يعتبره كونت أصله مكون فردي ذاتي.
وهنا بدأ يظهر القصور في الفلسفة العلمية مما أدى لظهور الفلسفة التفسيرية (التأويلية) التي اعتقدت بأن المعرفة تتكون من خلال الجدل الفكري بين العقول البشرية، وأن الفكر الجمعي مصدر الإدراك سواء للكون أو الحياة أو القيم أو الموت، وإعادة النقاش والتفكير فيما وراء الطبيعة للصورة مرة أخرى، ولكن هنا أركز على العلوم الإنسانية ودراسة الظواهر المتعلقة بها. وأرى أنها انقلابه ناعمة على الفكر العلمي، والعودة بالفلسفة إلى المنطلقات الدينية التي تعتمد على الإجماع والتفسير للنصوص الدينية وتواتر المعرفة في الأديان المختلفة في صورة فلسفية حديثة. وقد اعتبرت الفلسفة التفسيرية أن الوجود متعدد، وأن سبب تعدده تعدد الذوات المدركة له، وأن مصدر المعرفة العقل الجمعي، وأنّ القيم ما يتفق عليه مجموعة من الناس، وعليه فإن المصدر الحقيقي للمعرفة من وجهة نظرهم الخبرات الإنسانية. وبالرغم أنّ المقال قد لا يهدف بشيء من التفصيل في نقد الفلسفات الإنسانية بقدر إيضاح عدم التشدد في التمسك بها لدراسة الظواهر الإنسانية إلا إن هذ الفلسفة التي أعطت للخبرة السلطة في إدراك الوجود والمعرفة متجاهلة القدرة المحدودة للعقل البشري حين التأمل في الوظيفة المخصصة له. فالخبرة ذاتها قد لا تحصل إلا بإدراك مفهوم مسبق، تنطلق تلك الخبرات والتصورات والتعاملات وفق له، ويسهم لاحقاً التلاقح الفكري والخبراتي في نضجها في ذات الزمن والتي ربما تتغير وتتطور فيما بعد كنتيجة للنمو المعرفي والفكري والبيولوجي للإنسان. وقد حققت هذه الفلسفة نجاحاً في دراسة السلوك البشري والأنماط الحياتية والتجارب الإنسانية والأخذ بالمعتقدات والتصورات في دراسة الظواهر المتعلقة بالإنسان وفق ما تدركه وتراه في ذات اللحظة. وكما أسلفت بأنَّ الفكر والخبرة والسلوك متطور ونمائي. وعليه فقد اعتبرت نتائجها محدودة بالسياقات التي تنشأ فيها إيماناً منها بأنَّ الفكر، والقيم، والمعرفة متغيرة ومتجددة. وذهب إلى أنَّ ما هو صالح لمجموعة قد لا يصلح لغيرها، وكذلك لصعوبة تحقيق الثبات النسبي للظاهرة المدروسة لاعتمادها على متغير وهو الخبرة والعقل.
ومن هذا الجانب ظهر تصور آخر يجمع بين نقاط القوة في التصورين السابقين، ومحاولأً تقليل جوانب القصور الذي تحدثه كل فلسفة في مجال دراسة الظواهر الإنسانية أو المادية، ليحمل فكر تصالحي يميل للمنطقية في التفكير رغم قصوره. فالإيمان بتعدد مصادر المعرفة مبدأ صحيح في أصله. وقد جعلت الوصول للمعرفة منطلق رئيسي لها، وهدف تودُّ التركيز عليه، مغايرةً ما سبقها من تصورات فلسفية كانت تركز على الوجود كمحور للانطلاق والوصول للمعرفة ومن ثم القيم والمناهج والأدوات. وقد اتخذ هذا التصور الفلسفي الحديث المتمثل في البحوث المختلطة أن الهدف الفعلي لنتيجة البحث في العلوم المختلفة سواء المادية أو النظرية هو الوصول لنتيجة تسهم في حل المشكلة البحثية بشكل أمثل، وتقدم الحلول لها، وتنتج المعرفة الحقيقة التي ترتبط بالعالم الفعلي للمشكلة. وقد دبَّ هذا الفكر المختلط الذي يجمع الحسنيين بين المدرستين العلمية والتفسيرية في أوساط الباحثين حتى شهد تحولات بعض العلماء من الأطياف الفكرية المتعددة إيمانا منهم بأن النتيجة البحثية المثلى هي ضالة الباحث وغايته الفعلية. فعلى سبيل المثال تنقلات البروفيسور كريسويل بين مداخل هذه الفلسفات المتعددة الذي يعد من رواد البحوث المختلطة اليوم، والبروفيسور في علم النفس التربوي بجامعة إلينوى جينيفر قرين Jennifer c. Greene الذي أسس ورفاقه مبادئ البحوث المختلطة الخمسة المشهورة، والطبيب النفسي التربوي أنتوني جون أنويجبيوزي Anthony John Onwuegbuzie وغيرهم الذي قد لا يتسع المقال لذكرهم.

إذاً عزيزي الباحث المشكلة البحثية والحاجة للإضافة العلمية والجدوى من النتيجة المراد تحقيقها، وأهداف الدراسة جميعها تسهم في اختيار المنهج البحثي الملائم. وهي الحكمة المقصودة في عنوان المقال. فالضابط إذاً قد اتضح للباحث الذي يتسم بالمرونة الفكرية والانفتاح على العلم بأطيافه ليختار النموذج الملائم وفقأ لما ذكر أنفاً. وعلى الرغم إنه من المفيد للعلوم الإنسانية خاصة أن تستفيد من الجمع بين المناهج البحثية، وأدوات جمع البيانات المختلفة، لتحقيق أفضل السبل لحل المشكلات البحثية الاجتماعية المتمثل في المدخل الاستردادي (Abductive approach) بالبحوث المختلطة (Mixed methods).

محمد بن عبدالله الأحمدي
كلية التربية جامعة بيشة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock