أخبار منوعة

‏سجلات المحاكم الشرعية وكتابة التاريخ.. كتاب وندوة في المركز العربي للأبحاث

للدبلوماسي والمؤرخ خالد زيادة مؤلفات عديدة تتناول التاريخ والثقافة والفكر والحداثة، وتؤرخ لعلاقة العالم الإسلامي والعربي بأوروبا في حقب زمنية متعددة من عهد السلطنة العثمانية إلى عصر النهضة. وهو من أوائل المؤرخين اللبنانيين الذين اعتمدوا سجلات ووثائق تاريخية لكتابة تاريخ لبنان الاجتماعي.

طرابلس العثمانية

آخر إصدارات صاحب «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب» كتاب «سجلات المحكمة الشرعية، الحقبة العثمانية، المنهج والمصطلح»، وهو يضم ثلاثة إصدارات سبق أن نشرها في فترات ممتدة بين 1983 و2008. ويعنى الكتاب بسجلات المحكمة الشرعية في طرابلس ابتداء من عام 1666 وحتى القسم الثاني في القرن التاسع عشر: (1883).

وقد عقدت ندوة في مركز الأبحاث ودراسة السياسات في بيروت لمناقشة هذا الكتاب الذي صدر عن المركز. شارك في الندوة إلى صاحب المؤلف كل من الباحثين والمؤرخين جوزيف أبو نهرا وبطرس لبكي.

في بداية مداخلته، اعتبر أبو نهرا أن الكتاب شرعي ومحكّم، إذ يُعتبر مرجعاً موثقاً يتميز بإحاطة شاملة ووافية للموضوع المطروح، وبمنهجية علمية صارمة تتصف بالموضوعية وبالدّقة. وقدم ملخصاً عن القسم الأول من الكتاب، وهو بعنوان «الصورة التقليدية للمجتمع المديني، قراءة منهجية في سجلات محكمة طرابلس الشرعية»، وفيه يبرز الباحث أهمية سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، من حيث المرحلة الزمنية الطويلة (1666م- 1883م)، ومن حيث تنوع الجوانب والقضايا التي تتطرق إليها وغنى المعلومات التي توفرها للباحث.

ولفت أبو نهرا إلى أن الكاتب يستخلص الحدود التي يتوقف عندها النص في مقارنته بين مضمون النصوص والواقع الاجتماعي الذي تزامن معها. ففي هذه السجلات على سبيل المثال، لا يرد ذكر انتفاضات الأهالي، فيصفها النص بـ«أعمال شغب ولصوص». كما أن علاقة شيخ الحارة بحارته، وشيخ الحرفة بحرفته، بقيت بعيدة عن الرقابة الكلية لقضاة الشرع، وذلك بسبب انتشار الطرق الصوفية التي استطاعت أن تغلق شؤونها عن كل تدخل خارجي بسبب العلاقات الدقيقة التي كانت تقوم بينها وبين الحرف المهنية، وجماعات العسكر.

أصناف الحرف

وتبين الوثائق المدروسة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي مثلاً أن الطوائف المهنية كانت تعرف بـ«الأصناف»، وكانت أكثر أنواع التنظيم الاجتماعي دقّة ودواماً. على رأس كل منها شيخ يختاره معلمو الحرفة ويعيّنه القاضي، وكان يتولى رعاية شؤون المهنة والسهر على مصالح أربابها، حتى أنه كان للشحادين شيخ خاص. كان لكل مهنة عادات وتقاليد خاصة، وفي اعتقاد الدكتور خالد زيادة أن بعض أسباب هذه الخصوصية عائد إلى العلاقة التي كانت قائمة بين الطرق الصوفية والمهن، وإلى الاختلاف الذي كان قائماً بين هذه الطرق.

ماضي الحاضر

وتناول أبو نهرا القسم الثاني من الكتاب، وهو يبدأ بالتركيز على أهمية سجلات المحاكم بصفتها مصدراً تاريخياً تفصيلياً يتمتع بالثبات والتواصل، لا يضاهيه مصدر آخر في تقديم المعطيات التفصيلية الكثيفة، وفيه يدعو الكاتب إلى النظر إلى وثائق المحاكم الشرعية، لا من وجهة نظر تاريخية فحسب، بل من وجهة نظر الحاضر لأنها يمكن أن تقدم فهماً لحاضر المدن التي تقوم فيها المحاكم في حال أقلعنا عن اعتبارها مجرد مصدر للتعرف إلى حقب الماضي.

إلى جانب فوائدها في ميادين البحث، تساهم سجلات المحاكم الشرعية في الحفاظ على التراث الحضاري المعماري. ونعرف من خلال هذه الوثائق الشخصيات البارزة في المجتمع الطرابلسي في القرن السابع عشر من خارج أصحاب المناصب وهم: المفتي، ونقيب الاشراف، وشيخ التكيّة. كما تعكس إفادة رجال الدين من بعض الامتيازات.

اما بخصوص التوزّع السكّاني في طرابلس، فتُظهر السجلات أنّ المسيحيين لم يكونوا كاليهود منغلقين على أنفسهم، بل كانوا منتشرين في مختلف مناطق المدينة، من أصل 24 حارة كان يوجد 16 حارة يسكنها مسلمون ومسيحيون، 2 يسكنها مسيحيون وحارة واحدة يسكنها يهود. وهناك تمييز بين المسيحيين العرب والمسيحيين الأوروبيين، فالمسيحي العربي يُعامل كذميّ والمسيحي الأوروبي يُعامل كمستأمن أي يتمتع بعهد أمان. وورد في السجلات لقب «خواجة» للإفرنج، ولكن وردت أيضًا ألقاب «لئام وكفرة وملاعين» للقراصنة الأوروبيين الذين كانوا يتعدون على الرعايا العثمانيين.

اما القسم الثالث من الكتاب، فيتطرق إلى العلاقة بين التاريخ وعلم الاجتماع، فيلحظ المؤلف أنّ الدراسات الاجتماعية الحديثة وجهّت البحث التاريخي وجهة جديدة من الناحية المنهجية. فالبحوث الاجتماعية ساهمت في ازدياد الاهتمام بالوثائق وكذلك اهتمام المؤرخين بالتاريخ الاجتماعي، فأصبح علم التاريخ يتقاطع في بعض نواحيه مع علم الاجتماع.

فكر نقدي موضوعي

الدكتور بطرس لبكي، استذكر في مستهل ورقته قولاً للمفكر الروماني الكبير شيشرون، جاء فيه: «إنّ نزاهة الفكر والجرأة الأدبية هما صفتان أساسيتان للمؤرخ، الأولى تحتّم عليه تجنّب التعبير عن أي أمر يعرف أنه غير صحيح، والثانية تجعله يتمتّع بالجرأة الكافية للتعبير عن كل أمرٍ يدرك أنه صحيح». فنزاهة الفكر تفترض روحا نقدية موضوعية. وهذا ما يتمتع به الدكتور زيادة، بالإضافة إلى الجرأة الأدبية التي تدفعه إلى قول الحقيقة في استنتاجاته التحليلية بعيدا عن الايديولوجيا والأفكار المسبقة.

روح التاريخ

تابع لبكي: أن المنهجية المتبعة في الكتاب تظهر بوضوح أن المؤلف هو من أنصار المدرسة التجدديّة في التاريخ، فهو يتجاوز الأحداث التي تتمحور حول دور الملوك والحكّام، إلى دراسة تاريخ الناس وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية في الزمان والمكان. وهو يدعو إلى انفتاح التاريخ على علم الاجتماع والعلوم الأخرى الانسانية والوضعية للإفادة من تطورها وتقنياتها الحديثة.. وفي ختام ورقته استشهد لبكي بالمؤرخ الفرنسي الان كوربان او «مؤرخ الأحاسيس» الذي تركزت أعماله على التأريخ لانفعالات البشر وعواطفهم، وهو من يدعو الى إيلاء الاهتمام بالأشياء النافلة في دراسة التاريخ، كالأزياء، الروائح، التعابير، الخ..ففيها تكمن روح التاريخ.

القبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock