فن الامتنان.. كيف يساعدك على العيش في سلام مع ذاتك؟
هل جرّبت أن تستمع من قبلُ إلى شخص لا يرى سوى الجوانب السلبية والسوداوية في حياته ولا يستطيع أن يرى أي شيء إيجابي؟ هل شعرت بالاختناق وبالظلمة تفرض سيطرتها على مجال رؤيتك من مجرد الاستماع إليه؟ أو ربما مررت بفترة أو موقف كُنت خلالهما هذا الشخص الذي لا يستطيع أن يرى أي شيء إيجابي في الحياة، أثر ذلك قوي على نفس الواحد منا، بل يمكن القول إنه أحد أهم عوامل الاضطراب النفسي، أو على الأقل الحزن الدائم للناس الطبيعيين. هناك حل لكل هذا، يعتبره بعض النفسانيين أحد أفضل الأدوات الحالية لتعديل السلوك.
ما الامتنان؟
بدايةً دعنا نتعرف أكثر إلى المقصود بكلمة الامتنان. فهي تعني التقدير والشكر لما يتلقاه الفرد من أشياء جيدة في الحياة، سواء أكانت هذه الأشياء مادية أو غير مادية، يمكنك الامتنان لأجل وجود المال والمنزل والسيارة، كما يمكنك الامتنان لأجل وجود الشعور بالرضا وراحة البال والاطمئنان والأمان. يُعبّر الكثير منّا عن امتنانه بقول “شكراً” لشخص ساعدنا أو قدّم لنا هدية.
لكن من منظور علمي، الامتنان ليس مجرد تصرف أو كلمة، إنه أيضا عاطفة إيجابية تخدم أغراضاً صحية، فيمكن اعتبار الامتنان تقديراً عميقاً تنتج عنه مشاعر إيجابية تدوم لفترة أطول. وفقاً للدكتور “روبرت إيمونز”، من جامعة كاليفورنيا، فإن الشعور بالامتنان ينطوي على مرحلتين: المرحلة الأولى هي الاعتراف بوجود الخير في حياة المرء، وأننا تلقينا شيئاً ما يُثلِج الصدر. خلال هذه المرحلة يحدث التأكيد بشكل عام على أن الحياة جيدة، وتحتوي على أشياء تستحق العيش. أما المرحلة الثانية فتتمثل في الاعتراف بأن بعض مصادر هذا الخير تكمن خارج الذات.
يمكن للمرء أن يكون ممتناً للآخرين والحيوانات والعالم، ولكن ليس لنفسه. المقصود هنا أنه خلال عملية “الامتنان”، يُدرك الناس جوانب الخير في حياتهم، ويدركون عادة أن مصدر ذلك الخير يكمن جزئياً على الأقل خارج أنفسهم. لذا، يساعد الشعور بالامتنان الأشخاص على التواصل مع شيء أكبر من أنفسهم بوصفهم أفرادا، سواء أكان هذا الشيء هو الأشخاص الآخرين حولهم، أو الإله بوصفه قوة أعلى تسوق الخير لهم.
خلال إحدى الدراسات، طلب اثنان من علماء النفس، هما الدكتور “روبرت إيمونز”، والدكتور “مايكل إي ماكولو” من جامعة ميامي، من جميع المشاركين كتابة بضع جمل كل أسبوع حول أحداث حياتهم. كتبت المجموعة الأولى عن أشياء كانوا ممتنين لها حدثت خلال الأسبوع، أما المجموعة الثانية فكتبوا عن الأشياء التي كانت تزعجهم وتُشعِرهم بالضيق، المجموعة الثالثة كتبوا عن الأحداث التي أثرت عليهم بشكل عام ومحايد مع عدم التأكيد على كونها إيجابية أو سلبية.
بعد 10 أسابيع، كانت المجموعة التي دونت أشياء تُعبر عن الامتنان أكثر تفاؤلا وشعروا بتحسن في حياتهم، أيضا لاحظ الباحثون أن هذه المجموعة مارست أيضا تمارين رياضية أكثر وكان لديها معدل زيارات أقل للأطباء من أولئك الذين ركزوا على أسباب الانزعاج والضيق في حياتهم.
فوائد الامتنان وفقاً للدراسات والبحوث العلمية
يُعَدّ الامتنان أداة قوية لتقوية العلاقات الشخصية.
توسع علم النفس الإيجابي في نطاق البحث حول أهمية الامتنان، بقيادة الباحث “روبرت إيمونز”. حيث ألّف إيمونز العديد من الأوراق البحثية حول سيكولوجيا الامتنان، وأثبت أن الشعور بالامتنان يمكن أن يؤدي إلى زيادة مستويات الرفاهية في حياة الناس. فمثلاً، وجدت الدراسات أن التعبير عن شكرك يمكن أن يؤدي إلى تحسين شعورك العام بالرفاهية، وتوصلت أيضاً إلى أن الأشخاص الممتنين أكثر قبولاً وأكثر انفتاحاً وأقل عصبية.
لهذا السبب يرتبط الامتنان سلبياً بالاكتئاب، وإيجابياً بالرضا عن الحياة إذ وجدت دراسة أن الامتنان كان له تأثير -وإن كان هذا التأثير محدوداً- على الحدّ من أعراض القلق والاكتئاب. حالياً يدخل الامتنان -بشكل جانبي- في نطاقات العلاج النفسي للاكتئاب والقلق.
كذلك يُعَدّ الامتنان أداة قوية لتقوية العلاقات الشخصية، حيث يميل الأشخاص الذين يُعبّرون عن امتنانهم لبعضهم بعضا إلى أن يكونوا أكثر استعدادا لمسامحة بعضهم عند ارتكاب الأخطاء، كما أنهم يكونون أقل نرجسية. كذلك فإن تقديم الشكر لأولئك الذين ساعدوك يُقوّي من علاقاتك ويعزز بشكل عام قدرتك على تكوين العلاقات والحفاظ عليها.
من الفوائد النفسية أيضاً ما وجدته دراسة أُجريت عام 2014 من أن ضبط النفس قد زاد بصورة ملحوظة عندما اختار الأشخاص الشعور بالامتنان. لضبط النفس أهمية بالغة في مختلف جوانب حياة الشخص، بدءاً من الالتزام بالواجبات والمسؤوليات وتطوير وتنمية المهارات والتفوق، وصولا إلى مكافحة العادات الصحية السلبية مثل الإقلاع عن التدخين والإفراط في تناول الطعام. يساعدنا ضبط النفس على الالتزام بـ”الخيار الأفضل” لصحتنا على المدى الطويل، ولمستقبلنا المالي ورفاهيتنا.
وجد الباحثون أن الامتنان يُسهّل عليهم تقديم المساعدة للآخرين، فيساعد الأشخاص الممتنون الأشخاص الذين ساعدوهم، كما أنهم يساعدون الغرباء أيضاً.
مما سبق، يمكن أن يوفر لنا الشعور بالامتنان التصميم وقوة الإرادة التي نحتاج إليها لاتخاذ خيارات في حياتنا تخدمنا عاطفيا وجسديا على المدى الطويل، وهو ما أكدت عليه دراسة أُجريت عام 2018، والتي وجدت ارتباطا بين ضبط النفس/الصبر من جهة، والامتنان من جهة أخرى. خلال الدراسة كان الأشخاص الممتنون يؤخرون المكافآت الخاصة بهم بدرجة أكبر من غيرهم. يشير الباحثون إلى أن هذا له آثار تمتد إلى ما هو أكثر من الشؤون المالية للفرد، مُؤكدين أن زيادة مستويات الشعور بالامتنان يمكن أن تساعد الأشخاص على اتباع سلوكيات إيجابية متعلقة بالصحة.
الامتنان أيضاً لديه القدرة على تحسين سلوكك بشكل عام، فقد توصلت دراسة أُجريت عام 2006 إلى أن هناك علاقة إيجابية بين السلوك الاجتماعي الإيجابي والشعور بالامتنان. وجد الباحثون أن الامتنان يُسهّل عليهم تقديم المساعدة للآخرين، فيساعد الأشخاص الممتنون الأشخاص الذين ساعدوهم، كما أنهم يساعدون الغرباء أيضاً.
وجدت الأبحاث أيضاً أن الامتنان يمكن أن يُحسن من صحتك الجسدية، إذ أظهرت دراسة أُجريت عام 2014 وجود علاقة إيجابية بين الامتنان، والصحة البدنية ذاتية التقييم والميل إلى ممارسة الأنشطة الصحية والاستعداد لطلب المساعدة فيما يتعلق بالمخاوف الصحية. إضافة إلى الفوائد الصحية الجسدية والنفسية السابقة، أظهرت أدلة أن الامتنان يمكنه أن يُحسّن من نوعية نومك، تحسين نوعية النوم الذي تحصل عليها هو أمر في ذاته قادر على تحقيق العديد من الفوائد الجسدية والنفسية، بالإضافة إلى كونه يزيد من تركيزك ويُعزز من إنتاجيتك في العمل والدراسة.
المصدر: مواقع