«إيكونوميست»: «أينشتاين صغير مفقود».. كيف يمكن اكتشاف الأطفال الموهوبين وتنميتهم؟
كل عام في سنغافورة، يتلقى نحو 1% من الطلاب في الصف الثالث الابتدائي مظروفًا معنونًا بعبارة «خدمة حكومية»، وبداخله دعوة إلى برنامج تعليم الموهوبين الذي ترعاه الحكومة. ولتلقي دعوة حفل الافتتاح، يجب على التلاميذ أن يخضعوا لاختبارات في الرياضيات واللغة الانجليزية و«القدرة العامة»، وفي حال قبلت الأسرة العرض، فإن التلاميذ يتعلمون باستخدام مناهج دراسية خاصة.
هكذا افتتحت مجلة «إيكونوميست» تقريرها عن مسألة تعليم الموهوبين حول العالم، وعن الجدل الذي تثيره بين الأوساط العلمية المختلفة.
ووفقًا للتقرير تعد الطريقة السنغافورية رمزًا للطريقة التقليدية في تعليم «الموهوبين»، تلك الطريقة التي تعتمد على اختبارات ذكاء ذات عتبات نجاح صارمة لالتقاط الأطفال الذين يتمتعون في ما يبدو بقدرات فطرية، لكن الأمور تسير في العديد من البلدان بطريقتين رئيسيتين: الأولى هي استخدام التربويين مجموعة كبيرة من الأساليب للتعرف إلى الأطفال شديدي الذكاء، خاصة أولئك الذين ينحدرون من بيئات فقيرة، والثانية هي الاهتمام المتنامي بالتركيز على تعزيز المواقف والسمات الشخصية للأفراد الناجحين، بما فيهم أولئك الذين لم يحرزوا درجات مرتفعة في اختبارات الذكاء.
تكمن الدراسات الجديدة وراء تلك التحولات، فهي تظهر أن الدول التي لا تستفيد أقصى استفادة من أفضل من لديها تتكبد نفقات اقتصادية باهظة. تقترح الدراسة كذلك أن ننظر إلى مناظرات «الطبيعة أم التنشئة» بوصفها محض انقسامات خاطئة، صحيح أن الأمر وراثي بدرجة كبيرة، وهو المؤشر الأبرز للنجاح، لكنه ليس الشيء الوحيد الذي يحدد المستقبل المتميز.
رحلة البحث عن «العباقرة»
ترصد «إيكونوميست» بدايات دراسة الأطفال الموهوبين التي تعود إلى قرن مضى على الأقل، في 1916 بدأت ليتا هولنجورث -وهي عالمة نفس فندت فكرة أن النساء ناضلن في العلم بسبب تأثير الدورات الشهرية- واحدة من أولى الدراسات عن الأطفال ذوي الذكاء الحاد. بعد ذلك بنحو عقدين بدأت «ليتا» العمل في مدرسة سبيير بنيويورك، وهي واحدة من أولى المدارس التي امتلكت مناهج مثيرة لهؤلاء التلاميذ.
وتثير اختبارات الذكاء انتقادات كبيرة، فوفقًا للصحافي كريستوفر هيتشنز، الذي يتحدث بلسان المشككين: «ثمة رابطة قوية ودائمة بين غباء شخص ما، وبين ميله إلى الانبهار بنتائج اختبارات الذكاء». وكأي تقييم آخر لا يمكن الادعاء بأن اختبارات الذكاء عملية نموذجية، لكن ستيوارت ريتشي من جامعة إدنبرة يشير في كتابه «الذكاء» إلى أن الباحثين في علم الإدراك يتفقون مع الرأي القائل بأن الذكاء العام -ولا نعني هنا القدرة على حفظ الكتب، وإنما القدرة على التفكير العقلاني والتخطيط وحل المشكلات والتفكير التجريدي- هو أمر يمكن التعرف إليه، وخاصية مهمة يمكن قياسها عبر اختبارات الذكاء.
ويشير التقرير هنا إلى الأهمية الكبيرة لـ«دراسة الشباب ذوي النضج المبكر في الرياضيات» لجوليان ستانلي في 1971، الذي كان حينئذ طبيبًا نفسيًّا في جامعة جونز هوبكينز، والذي سجل على مدار ربع قرن نحو 5 آلاف طفل ذوي نضج مبكر، كانت نتائج اختبارات الذكاء التي أجريت لهم في بداية فترة المراهقة كافية لتتيح لهم الدخول إلى مرحلة الجامعة.
وخلال العقدين الماضيين، بدأت تظهر الدراسات التي تتناول أداء هؤلاء الأطفال خلال حياتهم اللاحقة، ومن بين 0.5% من الأطفال الذين حصدوا أعلى النتائج بالنسبة لمجموعتهم العمرية في الرياضيات والاختبارات الشفوية، تمكن 30% من الحصول على الدكتوراه -في مقابل 1% من الأمريكيين بشكل عام- كما أن هؤلاء أكثر قدرة لاحقًا على كسب الأموال، والحصول على براءات الاختراع.
كان هناك اختلافات بين هؤلاء «العباقرة» كذلك، وهو ما يتناقض مع الفكرة التي يتبناها بعض السيكولوجيين، بأن ثمة سقفًا لاختبارات معدلات الذكاء، يتضاءل تأثيرها بعد ذلك، فمن بين 0.01% من الأطفال الذين حصلوا على أعلى النتائج، تمكن نصف هؤلاء من الحصول على درجة الدكتوراه، وعلى شهادات في الطب أو القانون.
في الوقت نفسه، أثبتت نتائج دراسات إيان ديري في جامعة إدنبرة خطأ فكرة البعض أن الأطفال الموهوبين تمضي حياتهم بشكل مضطرب. صحيح أن هناك استثناءات بالطبع، لكن بشكل عام، فإن الطفل الذي يمتلك معدل ذكاء أعلى سيحظى لاحقًا بصحة جسمانية ونفسية أفضل، ولا يسبب لهم تخطي سنة دراسية واحدة الكثير من الأذى مثل الآخرين، ومن بين تلاميذ تجربة ستانلي الذين تخطوا على الأقل سنة دراسية واحدة، كانوا أكثر قدرة بنسبة 60% على حصد براءات اختراع مقارنة بالآخرين.
ويشير المسؤولون عادة إلى «دراسة الشباب ذوي النضج المبكر في الرياضيات» بوصفها مصدر إلهام لإنشاء مدرستين رياضيتين متخصصتين في إنجلترا عام 2014، واعتمادًا على تجربة مدرسة كولموجروف في موسكو، لا تقبل هذه المدارس غير التلاميذ المتفوقين في الرياضيات في اختبارات تجرى عند سن 16. وفي يناير (كانون الثاني) ذكرت الحكومة أنها تهدف إلى فتح المزيد من المدارس جزءًا من «استراتيجية صناعية»، وهي خطة لتعزيز نمو الإنتاجية المتواضع في بريطانيا. يبدو الربط بين تعليم الموهوبين والنمو الاقتصادي مرعبًا بالنسبة للبعض. لكنه بدا لوقت طويل تفكيرًا سليمًا بالنسبة لدول تفتقر إلى الموارد الطبيعية مثل سنغافورة.
«لعنة الفقر» تطارد الأطفال الموهوبين
بحسب التقرير، فللأسف تبقى فرصة الأطفال اللامعين في التميز أقل حال كانوا ينحدرون من أسر فقيرة، ففي ديسمبر (كانون الأول) نشر راج شيتي وزملاؤه من جامعة ستانفورد ورقة ندبت كل «أينشتاين ضائع». إذ وجد أن الأطفال الذين يحصلون على أعلى 5% من النتائج في الاختبارات الموحدة للصف الثالث الابتدائي أكثر قدرة لاحقًا على حصد براءات الاختراع من الـ95% الآخرين، لكن تلك الإمكانية تتعاظم إذا كان هؤلاء الأطفال الأذكياء ينحدرون من أسر أكثر ثراءً.
في فنلندا، وجد فيليب أغيون وزملاؤه في كلية لندن للاقتصاد نتائج مماثلة، فأولئك الذين يمتلكون معدلات ذكاء مرتفعة لكنهم ينحدرون من أصول فقيرة ربما لا يحصلون على فرصتهم كاملة. ليس هذا فقط ظلم لهؤلاء الأشخاص، لكنه يعني أيضًا أن الكثير من الموهبة، التي يمكن أن يتم تسخيرها لعلاج الأمراض، أو تصميم أجهزة أفضل، تلك المواهب يتم تبديدها بلا طائل.
ثمة براهين عديدة لكفاح الأطفال الأذكياء الفقراء، حتى الآن برامج الموهوبين لا تساعدهم كثيرًا، عندما يكون التقدم إلى تلك البرامج تطوعيًّا، فإن المتقدمين يأتون عادة من الأسر الغنية. في نيويورك على سبيل المثال، تتلقى شركات التعليم الخاص خدمة تحضير الأطفال ذوي الأربعة أعوام لاختبارات القبول في برامج تعليم الموهوبين التي تبدأ في مرحلة رياض الأطفال، في مقابل 200 دولار للساعة الواحدة، صحيح أن تلك التحضيرات قد لا ترفع نتائج الطفل إلا علامات قليلة، لكن هذا يصنع الفارق في كثير من الأحيان. في 2015 كان 70% من التلاميذ الذين قُبلوا في تلك البرامج من الآسيويين والبيض، برغم أن الآسيويين والبيض لم يكونوا يشكلون سوى 30% فقط من نسبة السكان في تلك المرحلة العمرية.
ربما تفيد تلك البرامج إذا قامت المدارس باختبار كل الأطفال، بدلًا من الاعتماد على الآباء الذين يدفعون أبناءهم قُدمًا للتقديم. في ورقة نشرت عام 2015، وجد ديفيد كارد ولورا جوليانو أنه بعد أن قامت إدارة تعليمية في فلوريدا بإدخال نظام اختبار شامل لنظام تعليم الموهوبين، فإن قبول الطلاب الفقراء زاد بنسبة 130%، فيما زادت نسبة الأطفال من أصول إسبانية بنحو 130%، و80% للتلاميذ السود (انخفضت نسبة الطلاب البيض).
وفقًا لتقرير «إيكونومست»، تذهب بعض البرامج إلى أبعد من ذلك، فميامي داد مثلًا، رابع أكبر الإدارات التعليمية في أمريكا، تستخدم اختبارات شاملة. إذ توفر حدًّا أدنى أقل لمعدل اختبار الذكاء المطلوب بالنسبة للأطفال الفقراء، أو الذين تُعتبر الإجليزية لغتهم الثانية، طالما أنهم يبدون علامات أخرى للتميز، مثل سرعة تعلم الإنجليزية، أو الحصول على علامات جيدة في اختبارات أخرى، وفي ميامي داد، فإن 6.9% من التلاميذ السود في برامج تعليم الموهوبين، و2.4% في فلوريدا ككل، و3.6% على المستوى القومي.
في أمريكا، فإن أربعًا من أصل 50 ولاية لديها برامج لتعليم الأطفال الأذكياء، ولكن في العشر سنوات السابقة على عام 2013، أعادت 24 منها تعريف تلك البرامج، فاستبدلت عنوان «ذوي القدرات العالية» بـ«الموهوبين»، ولم تعد أي ولاية حاليًا تعتمد على اختبار ذكاء واحد لاختبار الأطفال. في كتابه «غير الموهوبين» يعتبر سكوت باري كوفمان من جامعة بنسلفانيا أن ذلك «تغير ضخم بالمقارنة مع 20 سنة مضت»، كما أن العديد من البلدان الأوروبية تتخذ تحولات مماثلة.
تجري الإدارات التعليمية كذلك اختبارات لتقييم خصائص أخرى، بما فيها «القدرة الفراغية» لدى الطلاب (أي القدرة على توليد الصور البصرية ومعالجتها وتخزينها)، ويذكر عالم النفس «جوناثان واي» أن القدرة الفراغية لدى الطفل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يمكن أن يحققه في مجالات العلوم والتكنولوجيا في حياته اللاحقة، وجدير بالذكر أن الدراسة الفنلندية قد توصلت إلى النتيجة ذاتها، لكن تلك القدرة لا توفر -خلال مرحلة الطفولة- العائد نفسه الذي توفره الدرجات العالية في الاختبارات الرياضية والشفوية، ولذلك فإن اختبارها يعطي الأطفال الفقراء الموهوبين فرصة أفضل للبروز كما يؤكد «واي».
قوة المثابرة.. من جدّ وجد
يجادل بعض الباحثين -وفق التقرير- بأنه مهما كانت عملية انتقاء الطلاب جيدة، فإن الاعتماد على قياسات الذكاء وحدها ليست هي السبيل لاكتشاف الأطفال الذين لديهم إمكانية التفوق في ما بعد في حياتهم، فبعض علماء النفس -مثل كوفمان- يرون أن ثمة سبلًا أخرى للنجاح في الحياة، وأن على العملية التعليمية أن تفعل المزيد لتعزيز خصائص أخرى مثل الشغف، والعزيمة، والقدرة على الإبداع.
سواء أسميناها «المثابرة» أو «الدافعية» أو «الاجتهاد»، فإن الكثير من علماء النفس يؤكدون الدور المهم الذي يلعبه الإصرار «إذا كانت الموهبة مفيدة قيراطًا، فإن المجهود يفيد 24 قيراطًا»، هكذا كتبت أنجيلا دوكورث من جامعة بنسلفانيا، في كتابها «المثابرة» الذي نشر عام 2016. وبالنسبة لأندريس إريكسون من جامعة فلوريدا، فإن الممارسة المقصودة مدة طويلة من الزمن مهمة وحاسمة.
القليل من الباحثين يختلفون مع الفكرة القائلة بأن الموهبة بحاجة إلى التطوير، بما يتضمنه ذلك من ضرورة الاهتمام بالعمل الجاد مثل الاهتمام بالذكاء. وتضع المدارس المتخصصة في الرياضيات التابعة لبرامج تعليم الموهوبين من سنغافورة إلى إنجلترا أولوية لمساعدة الأطفال على متابعة شغفهم. إذ يُسمح للأطفال العباقرة في عمل الروبوتات على سبيل المثال بملازمة طلاب الجامعات.
ثمة دلائل على أن جوانب تعليم الموهوبين يجب أن يمتد ليؤثر في نطاق أوسع، فمشروع «فكرة مضيئة»، الذي تم تطويره في جامعة ديوك، أدى إلى تعليم 10 آلاف طفل في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية استخدام طرق كانت قبل ذلك حصرًا على «الأطفال الأذكياء»، بما في ذلك تعزيز التوقعات العالية، وحل المشكلات المعقدة، وفهم ما وراء عمليات التفكير، وتقريبًا فإن كل شخص قد أدى نتائج أفضل في الاختبار مقارنة بأقرانه.
يذهب بعض الباحثين إلى ما هو أبعد من ذلك، فتؤكد كارول دويك من جامعة ستانفورد أهمية «عقلية» الأطفال (القناعات التي يكوّنونها بخصوص عملية التعلم)، فالأطفال الذين يعتقدون أن بإمكانهم تغيير ذكائهم لديهم «عقلية نمو»، والأطفال الذين يعتقدون أنه ليس بإمكانهم فعل المزيد بخصوص علاماتهم الضعيفة لديهم عقلية «ثابتة»، ووفقًا لـ«دويك»، فإن الأشخاص من النوع الأول يبدؤون سريعًا في تحسين نتائج اختباراتهم.
وتظهر اليوم طرق التدريس التي ترتسم في العمل الذي أنجزته «دويك» في العديد من المدارس في أمريكا وبريطانيا، ويجري البنك الدولي محاولات لمقاربة ذلك في دول أخرى مثل بيرو. إحدى الطرق على سبيل المثال هو دفع الأطفال إلى إضافة كلمة «حتى الآن» إلى جملهم، مثل: «لا أستطيع القيام بالقسمة المطولة (حتى الآن)».
ورغم أن العديد من علماء النفس كافحوا للوصول إلى النتائج نفسها التي توصلت إليها دويك، فإن البعض على العكس يرون -اعتمادًا على التحليل البعدي (meta-analysis)- أن التدخلات القائمة على «عقلية النمو» ليست فعالة بدرجة الضجيج نفسها التي تحدثها، وترى الدراسة أن تأثير تلك التدخلات كان معدومًا، أو في أفضل الأحيان محدودًا على بعض الأطفال الأكثر فقرًا.
وتتعارض فكرة أن الذكاء مسألة شديدة المرونة مع الدراسة التي أجراها روبرت بلومين من كلية الملك في لندن عن الذكاء الموروث، وتقترح الدراسة أن نحو نصف التباينات في الذكاء تعود إلى اختلافات جينية، لا تهمل النتائج دور التنشئة والعمل الجاد والخلفية الاجتماعية وغيرها، لكنها تقوض فكرة أن مستوى الذكاء الأعلى هو ببساطة مسألة إرادية.
وتنهي «إيكونومست» تقريرها بالقول: تضمن المقاربة الأوسع لتعليم الموهوبين أن ينال المزيد من الأطفال فرصتهم، لكن الدلائل تشير إلى أنه طالما كانت اختبارات الذكاء مفتوحة أمام الجميع، فإنها ستظل تلعب دورًا حيويًّا. ولكي تجد كل أينشتاين جديد مفقود، فإن عليك أن تبحث عنه.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».
المصدر: ساسة بوست