مجلة هندية مشبوهة تعتمد 84 بحثاً من الكويت .. المجلة حققت نحو 13 مليون دولار نظير نشر البحوث من حول العالم
لطالما كان البحث العلمي، وعلى مر العصور، نشاطاً إنسانياً مهماً ينبري له الباحثون في ضروب المعرفة والعلوم كافة، لإفادة مجتمعاتهم والبشرية جمعاء بأفضل ما توصلوا إليه من حلول لمشاكل أو بلوغ نتائج باهرة تقود إلى اختراعات جبارة تغير مسار الحياة، وعادة ما يلجأ الباحثون إلى مجلات ودوريات محكمة وذات مصداقية لنشر بحوثهم.
لكن في الآونة الأخيرة ظهر ناشرون جشعون لا يأخذون العلم مأخذ جد، بل يستغلون الباحثين الحريصين على ارتقاء السلم الوظيفي الأكاديمي، لا سيما أن الجامعات تعتمد على نشر البحوث وسيلة لتقييم نجاح أي باحث في باب الترقيات العلمية أو النتائج البحثية التي تصب في مصلحة البلاد، لكن اذا كان بعض الباحثين يؤخذون على حين غرة، فإن باحثين آخرين اختاروا ان يكونوا شركاء متواطئين في الجريمة! حتى صار التعليم العالي في جامعات كثيرة بالعالم العربي، يعيش حالة من الفساد الطاغي والتدهور الفظيع؛ بهدف جني الاموال والترقيات السريعة للحصول على مناصب مرموقة من دون الاهتمام بأرواح البشر والتعليم.. والضحية هو المجتمع نفسه.ولم تكن الكويت بعيدة عن مرمى هذه «النيران العلمية» الزائفة، فقد تبين ان عدداً كبيراً من الباحثين الاكاديميين في جامعات عامة وخاصة، كما في وزارات وهيئات ومؤسسات حكومية ذائعة الصيت، نشروا بحوثاً مزيفة في دوريات مزيفة. القبس تسرد التفاصيل في التحقيق التالي:
منذ صدور حكم قضائي من المحكمة الفدرالية الأميركية مؤخرا، ضد شركة هندية متهمة بنشر أبحاث وعقد مؤتمرات علمية مضللة وبلا معايير موثوقة من أجل الربح المالي،
بدت تتكشف حقائق كثيرة حيال ذلك، وظهرت اسماء باحثين كثيرين من دول مختلفة يتعاملون مع الشركة، من ضمنهم اسماء في الكويت!
وكانت لجنة التجارة الاتحادية الأميركية FTC أعلنت أنها حصلت على أمر قضائي أولي في سبتمبر الماضي عن دعوى قضائية مرفوعة ضد الرئيس التنفيذي للمجلة التي تدار من حيدر آباد في الهند، وتنشر بحوثاً علمية غير موثوقة في نحو 700 دورية إلكترونية مزيفة، في شتى التخصصات العلمية مقابل رسوم باهظة وتحكيم صوري غير دقيق ولا يتوافق مع المعايير الأكاديمية للمجلات والدوريات العلمية المعتمدة والمعروفة عالمياً.
وحققت المجلة نحو 13 مليون دولار نظير نشر البحوث، حيث يبلغ رسم نشر البحث الواحد 3 آلاف وأعلى. واتهمت الدعوى التي رفعت في أغسطس 2016 المجلة وسلسلة المؤتمرات العلمية التي تسوق لها، المجموعة بالقيام بممارسات تجارية خادعة تتعلق بنشر البحوث والمؤتمرات العلمية لإضفاء المصداقية على أوراق بحث وهمية ومليئة بالأخطاء المطبعية وعدم الدقة، كما زعمت لجنة التجارة الاتحادية.
كما استخدم المدعى عليهم أسماء باحثين بارزين لجذب المشاركين في مؤتمرات تدعي أنها علمية، على الرغم من أن الباحثين لم يوافقوا على المشاركة، وأنها تضلل القراء حول ما إذا كانت المقالات العلمية المنشورة تم مراجعتها فعليا من قبل باحثين متخصصين، وفشلت في تزويد المؤلفين بمعلومات شفافة عن رسوم النشر قبل تقديمها.
بحوث من الكويت
دخلت موقع المجلة وبحثت في دهاليزه ورصدت أغلب محتوياته، وتكشّف لنا وجود 84 بحثا منشوراً بالموقع، من مختلف المؤسسات الحكومية والتعليمية الكويتية، اضافة الى عدد من الجامعات الخاصة والمراكز الطبية والبحثية.
سألت أستاذ كلية الدراسات التجارية د. محمد الوطيان، التعليق على الأمر فقال ان من ينشرون في مجلات مشبوهة هم أساتذة اعتادوا سرقة أبحاث علمية منشورة في مجلات محكمة، من أجل الحصول على الترقية وجوائز تشجيعية مقدمة من مؤسسات حكومية، مؤكدا أن السبب الرئيسي لنشر السرقات العلمية في المجلات المشبوهة يبين كثرة وجود سراق الأبحاث من ضمن هيئة تحرير المجلة.
وشدد الوطيان على ضرورة نشر المؤسسات الأكاديمية لأبحاث الأساتذة العاملين معها ليحكم الجمهور الأكاديمي المهتم بنشر الأبحاث بمدى دقتها، مشددا على أن ما كُشف في موقع المجلة أمر في غاية الخطورة يستدعي التدخل الفوري والتحقيق العاجل.
ظاهرة عالمية
بدوره، ذكر استاذ كلية الدراسات التكنولوجية في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب د. محمد المؤمن، أن النشر في المجلات المشبوهة ظاهرة عالمية منتشرة خصوصا في العالم الثالث، وهي تجارة مربحة جداً تستغل فيها حاجة أعضاء هيئة التدريس لنشر أبحاث بأسرع وقت ممكن، طمعاً في الترقيات والمناصب الإشرافية بغض النظر عن جودة الأبحاث، حيث الأصل هو أن تعمد المؤسسات العلمية العالمية الى النشر في أرقى المجلات العالمية التخصصية سعياً الى السمعة البحثية خارج مؤسسة الباحث نفسه.
وأضاف المؤمن أن الدافع وراء ذلك هو تحدي الباحث لذاته، إضافة الى تقوية فرصه المستقبلية إن رغب في الانتقال من مؤسسة الى أخرى والارتقاء بسمعة مؤسسته وتقوية فرص العمل لمشاركيه في البحث من الطلبة والمساعدين.
وأوضح ان «دور النشر» تلك يطلق عليها اسم predatory journals، أي مجلات الوحوش الكاسرة، فهي تصمم مجلاتها بطريقة تسويقية عجيبة تفرط في استخدام مفردات معينة على مواقعها مثل المجلة الدولية والمحكمة، وبالأخير ترى ان المدة الزمنية من التقديم الى القبول لا تتعدى اسبوعا ومن دون تعديلات أساسية أو حتى ثانوية.
وعن انتشار بعض الأساتذة لنشر أبحاثهم في مجلات علمية مشبوهة، لفت الى أنه شيء مؤلم عندما ترى الكم الهائل من الأبحاث تنشر في تلك المجلات التي لا تتبع التدقيق العلمي من باحثين في الكويت والمنطقة، وقد تكون بعض البحوث جيدة ولكن نشرها في المجلات الخطأ ظلم للباحث نفسه.
دور النشر
من جانبه، ذكر أستاذ كلية العلوم في جامعة الكويت د. علي بو مجداد أنه بعد افتضاح أمر دور النشر الوهمية، يجب على الباحث أن يفكر كثيرا قبل إرسال بحثه للنشر في مجلة علمية، وبرأيي فإن أفضل وسيلة لتجنب النشر في المجلات المشبوهة هو النشر في مجلات دور النشر المعروفة والمعتبرة.
وأضاف بو مجداد أن ما يؤسف له ان بعض الأساتذة في الكويت نشروا أبحاثا عدة في مجلات مشبوهة وأنا لا أجد لهم عذرا، بل أعتقد ضرورة محاسبتهم وتنبيههم، كما أرى أن من مسؤولية إدارة المؤسسة الأكاديمية تنبيه اساتذتها وإبلاغهم بدور النشر المشبوهة وعدم قبول أبحاثهم كإنتاجية في مشاريع الأبحاث أو في الترقيات.
وعن أبرز القصص التي واجهته، قال: نبهني أحد الأساتذة مؤخرا الى حالة فساد نشر علمي، وأبلغت زملائي بذلك، فما كان من الأستاذ صاحب البحث المشبوه إلا مغادرة المؤسسة الأكاديمية الكويتية. كما علمت أيضا بقيام البعض بنشر بحثين متطابقين في مجلة مشبوهة بأسماء مختلفة، وهناك شكوى ضدهما، ولكن لا أعلم أين وصلت.
خداع الباحث
من جهتها، ذكرت أستاذة كلية التربية الأساسية في «التطبيقي» د. معصومة أحمد ان الكثير من الأبحاث المقدمة للترقية لا تسهم في تقدم المعرفة في مجال تخصص عضو هيئة التدريس او مجال الكلية، فبعض الاساتذة يتقدمون بأبحاث من اجل الترقية فقط، وبعضهم يستشهدون بأبحاث منشورة فتصبح نسخا عن بحوث سابقة، ولا جديد في موضوع البحث من اجل الانتفاع منه.
وقالت أحمد ان البعض ينشرون أبحاثهم في مجلة علمية وهمية يتم خداع الباحث بأنها مجلة محكمة مدرجة في الكشافات وقواعد البيانات الدولية المعروفة، والفيصل هو الرجوع الى قاعدة البيانات التي تصنف المجلات العلمية بحسب التخصصات. كما ينشر بعض اعضاء هيئة التدريس ابحاثهم في مجلات تستعين بأسماء هيئة تحرير معروفين من دون اخذ موافقتهم، ومن الملاحظ تكرار تلك الأسماء في الكثير من المجلات العلمية المحكمة.
وأشارت الى ان الغرض من النشر في بعض المجلات العلمية تجاري بحت، مما يبعدها عن الرصانة العلمية، مشيرة الى ان من مواصفات المجلات الرصينة أن تكون نسبة قبول الابحاث العلمية المرسلة اليها للنشر قليلة لا تتجاوز %30 الى %40 وليس قبول ما يرسل اليها.
عقوبات قانونية
من جهته، ذكر أستاذ القانون د. يوسف الانصاري، ان من يثبت تورطهم في أعمال الغش البحثي يواجهون عقوبات قانونية عدة، كالخصم من المرتب وإلغاء العلاوة والحسم الكلي للراتب، وربما التوقيف عن العمل، لا سيما أن الاقتباس غير العلمي أو الانتحال في ملكية انتاج علمي معين قد يعرض الباحث الى التوقيف النهائي عن العمل وإبعاده من عضوية التدريس بالجهات العلمية والأكاديمية.
وشدد الأنصاري على ضرورة ان تضع الدولة ضمن أولوياتها الإصلاحية، محاربة ظاهرة سرقة الأبحاث العلمية، لما تمثله الظاهرة من كارثة أخلاقية، وطالب وزير التربية والتعليم العالي بالسعي الحثيث والجاد لمواجهة الظاهرة، بالاستعانة بالمخلصين والمتميزين في البحث العلمي والتعليم الأكاديمي، واعتماد البرامج الدولية الكاشفة للاحتيال البحثي.
اختفاء الدكتور جيفري بيل
ذكر ابو مجداد أن أشهر محارب لهذه الظاهرة، على مستوى العالم، هو الأميركي د. جيفري بيل من جامعة كولورادو-دينف، والذي يعمل في مكتبة أوريريا في دينفر، وقد كشف المئات من دور النشر والمجلات المشبوهة، لكنه توقف فجأة منذ بداية العام الحالي، عن ملاحقة هذه الدور وأغلق موقعه الإلكتروني، بينما لا تزال لوائح هذه الدور موجودة على صفحات الإنترنت.
سرقات مكشوفة
أوضح د. محمد الوطيان أن هناك كثيرا من السرقات العلمية لبعض الدكاترة اكتشفتها أثناء رئاستي لجنة الترقيات، ومن أبرزها نشر بحث علمي لمجموعة من الدكاترة مسروق من كتاب دراسي لطلبة احدى كليات التطبيقي في مجلة علمية لكلية التجارة لجامعة عربية مشهورة، وأحد هؤلاء عميد كلية ورئيس تحرير مجلة، وقد قدم هذا الاستاذ للترقية من درجة أستاذ مشارك إلى درجة أستاذ دكتور لاحدى كليات التطبيقي.
جني المال
قال الوطيان ان بعض الناشرين على دراية بأن ما يقومون به خطأ، فيما يقول البعض الآخر إنهم يحاولون جني المال فقط عن طريق القيام بما تقوم به دور النشر المرموقة، ولكن بشكلٍ أسرع وبتكلفة أقل.
ثلاثة أيام
استغرب عدد من الأكاديميين من سرعة نشر البحث في المجلة الهندية، حيث يتم نشر البحث العلمي للتخصصات العلمية خلال ثلاثة ايام بعد الموافقة، مؤكدين أن تحكيم البحوث يستغرق نحو شهرين وأكثر في المجلات المرموقة، متسائلين: كيف ينشر بحث علمي دقيق في ثلاثة أيام فقط؟
مجلات كرتونية
اشار د. علي أبو مجداد الى أنه في السنوات الأخيرة وجد بعض التجار الجشعين وسيلة جديدة وسهلة لتحقيق الربح، وهو عبر إنشاء مجلات كرتونية تنشر أبحاثا علمية لقاء أجر مادي، وانتشرت دور النشر الجشعة هذه مثل النار في الهشيم، لا سيما انه في بداية الانطلاقة لم يكن من السهل التعرف على هذه الدور المشبوهة، حيث انهم يستخدمون عناوين رنانة في أوروبا والولايات المتحدة ويقومون بشكل محترف في افتعال تحكيم وهمي عادة ما ينتج عنه طلب تعديلات ومن ثم يتم قبول البحث، وقد حاز هذا الأمر اهتمام الجامعات فقاموا بالفحص والتدقيق وتنبيه الأساتذة من النشر في مثل هذه المجلات.
معلومات عن المجلة الهندية
• مقرها حيدر أباد في الهند وتنشر بحوثا في شتى التخصصات عبر 700 دورية إلكترونية مزيفة.
• حققت نحو 13 مليون دولار ارباحاً من نشر الأبحاث الوهمية.
• رسوم نشر الابحاث تتراوح ما بين 3 إلى 5 آلاف دولار.
• تنشر البحث خلال 3 أيام، بينما يستغرق نشره بالمجلات المرموقة 3 أشهر.. وحتى سنة.
• وضعت المجلة أسماء محكمين معروفين دون علمهم لإيهام ناشري البحوث بمكانتها العلمية.
• صدر ضدها حكم في دعوى قضائية مرفوعة في أميركا ضد الرئيس التنفيذي للمجلة .
مراجعة آلية التقييم
عن أبرز القصص التي مرت عليه في النشر العلمي، قال د. محمد المؤمن: لا نريد الاساءة لأي مؤسسة بسبب أشخاص، لكن أكتفي برجوعكم لعدد الشكاوى ولجان التحقيق التي شكلت في المؤسسات المختلفة، ومن المؤكد أن ما خفي أعظم.
واضاف أن البحث الذي ينشر في أي مجلة لا يسمح باعادة نشره في مجلة أخرى، فتلك المجلات في أفضل الأحوال عليها علامة استفهام ولا ينظر لها أصلا ضمن الجامعات المميزة، فعلى الباحثين والمؤسسات المختلفة في المنطقة مراجعة آلية التقييم، فمن الواضح من أعداد البحوث المنشورة في تلك المجلات أن الآلية الموضوعة حالياً لا تجاري المتغيرات السلبية.
بحوث بالإنابة
بين د. يوسف الانصاري انه وفق اللوائح الخاصة في الترقيات العلمية بهيئة التطبيقي والجامعة، هناك ضوابط وشروط للترقيات العلمية، ولكن للأسف الشديد هناك من ينوب عن الباحثين الفاسدين في تتبع إجراءات الترقية لتلك اللوائح من قبل سماسرة البحوث المنزوع منهم الأمانة والأخلاق يقومون بالنيابة الكاملة عن الباحثين المزيفين في اعداد البحوث المشبوهة.
القبس