كتاب أكاديميا

سلمى الحربي تكتب: تطور نظرية المنهج والنموذج الأمريكي


يُشكّل الإنسان منذ الأزل مادّة التربية وهدفها الأول. والمنهج باعتباره علماً إنسانياً يُعد الإطار التربوي، الذي تؤول إليه نتائج الأبحاث العلمية، والدراسات الإنسانية، وخلاصة الحكمة البشرية، كونه الوسيلة المثلى لصهر تلك التبصُّرات والافتراضات في قالب مرن، تُصاغ من خلاله شخصية الفرد وخبراته المنشودة.
وتربوياً يُمكن الإشارة لنظرية المنهج باعتبارها المنظومة الأيدولوجية، التي تحكم المنهج في مرحلتي البناء النظري والممارسة التطبيقية، والتي تُبنى على دراسات تحليلية لخلفيّات المنهج التاريخية، ويتم صياغتها وتطويرها تِباعاً في ضوء تاريخ وواقع ومستقبل المجتمع الذي يستهدف المنهج أفراده. إنّها باختصار الفكر الذي يقود المنهج، استناداً على مجموعة الافتراضات والأفكار والمعتقدات والتعميمات (حول المجتمع والمعرفة والمتعلّم)، التي تشكّلت في ضوء الفلسفات والنظريات التربوية، والعوامل والقضايا الاجتماعية، والسياق المحيط بكافّة تفاعلاته ومتطلّباته. هذه الافتراضات والمبادئ والتعميمات تُعد لُب النظرية، حيث تتّسق معاً لوصف وشرح وتفسير ظواهر وقضايا وأحداث المنهج، والتنبؤ بالمشكلات، وإدراك العلاقات، وتنظيم التفاعلات، وتوجيه القرارات، انطلاقاً من تحديدها لنقطة الارتكاز الأساسية في المنهج. هذه الرؤية البانورامية للنظرية المناهجية تتوسّع لتشمل السياسات التربوية، وحركات الإصلاح التعليمي، والفلسفة التربوية القديمة والمعاصرة من جهة، وتتعمّق من جهة أخرى في دراسات استقصائية مناهجية تحليلية تستهدف فهم المنهج. هذا الفهم العميق يساعد بدوره على إيجاد الصيغة المناسبة لإعادة البناء الذاتي والاجتماعي من خلال المنهج. والنظرية بهذا المعنى الشامل والاتّساع الوظيفي تُقدّم منظوراً كليّاً للمنهج كمجال للدراسة والبحث والتنظير.
وبتأمّل المفاهيم السابقة لنظرية المنهج نجد أنّها تعكس سمات عدّة للنظرية منها التعقيد والعملية والاتّساع والشمولية والخصوصية والإمبريقية والبينية والتداولية. والسمة الأخيرة تفرضها طبيعة النظرية التي لا بدّ أن تُوضع ضمن إطار مشترك ذي رؤية مجتمعية؛ يشارك فيه كل من له علاقة بالمنهج، من معلمين ومتعلمين وأولياء أمور وصُنّاع قرار وخبراء ومُمثلي المؤسسات الاجتماعية التي تؤثّر وتتأثّر بالعملية التعليمية. والنظرية بهذا المعنى الدقيق تستلزم وجود الوعي النقدي لكافّة المساهمات النظرية السابقة، والممارسات الحالية، والوضع الراهن للمناهج، مع تصوّر كامل لمتطلّبات المجتمع وأفراده، وما يفرضه العصر الحديث من تداعيات وتحدّيات.
وتُشير أدبيات المناهج الأمريكية إلى مرور نظرية المنهج في الولايات المتحدة الأمريكية بمراحل تطور متعدّدة، ناشئة عن المنظورات المتجدّدة لمعاصريها، والعوامل والظروف والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أثّرت على البلاد، وانعكست جلياً في رؤية منظّريها، وبالتالي على الأسس النظرية والممارسات التطبيقية للمنهج الأمريكي. والجدير بالذكر أنّ نظرية المنهج الكلاسيكية “Classical Curriculum Theory” تّعد أُولى تلك المراحل، حيث سيطرت منظورات علم النفس على صناعة المناهج الأمريكية في الفترة الممتدة من (1860-1890م)، على اعتبار أنّ العقل عضلة يجب تنميتها وتدريبها من خلال الحفظ والاسترجاع. وعلى هذا المبدأ والاعتقاد تشكّلت كافة المبادئ والممارسات التعليمية. تلا ذلك ظهور النظرية الهربارتية “Herbartian Theory”، المنسوبة للفيلسوف الألماني يوهان فريدريك هربارت “Johann Frederich Herbart”، كردّة فعل على النظرية الكلاسيكية. هربارت الذي عُدّ مؤسّساً لعلم التربية كفرع أكاديمي، كان يرى أنّ التربية مرتبطة بدرجة كبيرة بالأخلاق “Morals”، لذا لا بدّ أن يكون اهتمام التعليم دراسة أنماط الصواب والخطأ بالاستناد لقوانين ومبادئ علم النفس. وقد تأثّر الكثير من التربوييّن الأمريكييّن بنظرياته وأفكاره، ممّا دعاهم لتبنّيها في التعليم والتربية الأمريكية لفترة من الزمن. وفي بداية القرن العشرين ظهرت حركة الكفاءة الاجتماعية “The Social Efficiency Movement”، ممثّلة بكتابات فرانكلين بوبيت “Franklin Bobbitt”، حيث تمّ توظيف مفاهيم الثورة الصناعية والعلم التجريبي والكفاءة الاجتماعية في الفصول الدراسية. والفكرة المحورية التي كان يتم التنظير حولها هي أنّ وظيفة المنهج الأساسية هي إعداد النشء لحياة الراشدين، من خلال تدريبهم على سلسلة من النشاطات، مما يساعد على تنمية قدراتهم وصقل مهاراتهم لممارسة أدوارهم الاجتماعية بكفاءة عالية. تلا تلك الحقبة ظهور حركة الاصلاح التقدمية “The Progressive Reform Movement” في سبعينات القرن التاسع عشر (1870s). هذه الحركة نظّرت لمنهج يتمحور حول المتعلّم (الطفل) في كافّة مبادئه وممارساته وتطبيقاته؛ حيث نظّرت للمنهج كحزمة من التجارب التي توجّه المتعلّم وتُعدّه للحياة والمستقبل. وكلّ من ديوي وتايلور ينتسبون تاريخياً لتلك الحقبة، بالرغم من اعتراف النقّاد بأنّ آراء ونظريات تايلور فيما يخص المنهج كانت أكثر عقلانية ومنطقية. وأيضاً تسبّبت الأزمة العنصرية في أمريكا في نشوء فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، مما أسفر عن نظرية جديدة للمنهج عُرفت باسم حركة التعليم متعدد الثقافات “The Multicultural Education Movement”. ولقد نادى مُنظّرو هذه الحركة الاصلاحية بضرورة مراجعة وإعادة التفكير والصياغة للمنهج الأمريكي، حتى يوافق تطلعات كافّة المتعلمين بدون تحيّز عنصري لجنس أو لون أو خلفية معينة. واستمرت هذا النظرية بالتأثير على المناهج الأمريكية حتى منتصف القرن العشرين، وتحديداً حتى عام (1957م)، عندما تمّ إطلاق القمر الصناعي الروسي سبوتنك “Sputnik” لتبدأ نظرية جديدة للمنهج تدعو للتركيز على العلوم والرياضيات، كمدخل للتنمية العقلية اللازمة لقيادة المستقبل العلمي للبلاد. وعدّ النقاد هذه الحركة ولادة جديدة للتربية التقليدية والنظرية الكلاسيكية للمنهج التي ظهرت في عام (1890م). وما يميّز هذه الحركة هو الدعم السياسي اللامحدود على مستوى المنظّمات العسكرية. أمّا التطور التالي لنظرية المنهج فقد جاء على يد جوسيف سكواب “Joseph Schwab” في عام (1969م)، وعُرف باسم إعادة صياغة مفاهيم المنهج “Reconceptualized Curriculum”. ومن أبرز منظّري هذه الحقبة وليام بنر وميشيل آبل وجيمس ماكدونالد وغيرهم. وقد مال هؤلاء المفكّرون لتقديم فهم جديد وطرق متعدّدة للتفكير في المنهج، ودوره في الحياة الأكاديمية والمدرسة والمجتمع بشكل عام.
وبهذا نرى أنّ نظرية المنهج لها سمة تحوّلية ووظيفة نقدية هامّه، حيث تعمد لفهم وتحليل وتوجيه عمليات المنهج، وحل مشكلاته وتوجيه قراراته في ضوء الفكر العام للمجتمع، والعوامل المؤثّرة فيه. ففي كل حقبة زمنية تظهر توجّهات فلسفية جديدة للنظرية المناهجية، تتفاعل ديناميكياً مع متطلّبات واحتياجات العصر وظروفه وسياقاته، مما ينتج عنه تحوّل وتطوّر في النظرية المناهجية بشكل أو بآخر.

سلمى الحربي

باحثة في المناهج وطرق التدريس

займ на карту быстро

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock