يوسف عوض العازمي يكتب: وإن سر بعضهم أحيانا”
” حتى امتلأ الإناء يوما ففاض ”
( مصطفى صادق الرافعي )
قبل ايام وصلني عبر وسائل التواصل خبر عن مسابقة لإلقاء قصيدة ” صحب الناس ” للشاعر أبو الطيب المتنبي ، ينظم هذه المسابقة قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الكويت ( محدثكم أحد طلبة الكلية ) ، و هذه المسابقة كما استنتجت من قراءة النشرة الموزعة واضح إنها فقط لتنمية طريقة إلقاء القصيدة لدى الطلبة ، و رصدت لها جوائز رمزية ، و بالطبع هو توجه محمود ، فكثيرا” من القصائد نسيت لأنها لم تحظ بإلقاء مناسب ( اقصد من ناحية إنتشارها ) ، جميل ان يتم تشجيع مثل هذه المسابقات الداعمة للمواهب .
نرجع للقصيدة و هنا لن ادخل بنقد أو تحليل أو قراءة لها و لأبياتها فهذا ليس تخصصي و للتخصص اهله المعروفين بالمهنية والمواقف الأدبية في النقد و التحليل ، لكني توقفت عند بيت في القصيدة و اظنه البيت الثالث ، و هو :
وتـولـوا بـغـصـة كـلهم منه
وإن سـر بـعـضـهـم أحيانا ..
بيت يحتوي على صور شعرية متعددة ، هو قصة لوحده ، و هنا تتجلى موهبة و قدرة المتنبي المتفردة ، هذا بيت يفتح مساحات مختلفة من الواقع و الخيال ، و من الذهاب و الإياب في الشرح و التحليل و تفكيك المعنى و تحليلة ، فقد اطرحه كبيت يتحدث عن حدث إجتماعي ، او حادث سياسي ، أو حتى ينطلق ليكون بداية لرواية تبدأ منه و تنتهي به !
مثل هذا البيت ممكن جدا” ان يكون قصيدة لوحده ، و لا داع لا للإبيات السابقة أو اللاحقة ، تخيل معي و أقرأ من بداية البيت عندما يبدأ بواو العطف ثم التولي ، ثم يستكمل المعنى الذي يبعد التخمين عندما يقول ” بغصة ” الغصة هنا هي الوجع والضرر النفسي ، لكنه يذهب لصفة الجمع في ” كلهم ” و هنا يبدو الحدث و كأنه اكبر من فرد او شخصية واحدة ، ليجبر المعنى في ” منه ” و هي سببية للمعنى ، و تجر كلمة ” كلهم ” لتبدو متناسقة في الرتب المكتوبة .
في الشطر الثاني يبدأ أيضا” بواو العطف ، و يتوضح لدي و حسب فهمي بأن مفردة أو لفظ ” سر ” هي العمود الفقري للبيت ، و هي القاعدة المتكأ عليها في معنى البيت ، و بعد الإندفاع الإعترافي بكلمة ” سر ” يبدو لي الشاعر و كأنه يعدل في جلسته ليغير نظام المعنى إلى ” بعضهم ” و هنا ندخل على معنى متأرجح الوضوح يتركب على فعل ماض و لايركب على تحديد معين ، إذ ذكر الصفة العامة ، التي ربما لها معنى في بطن الشاعر ..
و يستكمل التأرجح بكلمة الختام ” أحيانا” ” ، و مايلفت هو الترابط الزمني و المعنوي بين الكلمتين الأخيرتين ” بعضهم ” و ” أحيانا” ” و هذا و لاشك يحيل المعنى بأكملة إلى الغموض و اللعب على ذكاء المتلقي ، فلا هو من حدد و لا هو من أخفى ، و أعتقد ان الصنعة الشعرية هذا اساسها ، ومن هذا الأساس ندخل للشعر الحقيقي ، فالشعر الذي لايشغل مخ المتلقي و لايدخله في أسئلة و إستنتاجات ، هو مجرد تنظيم كلمات و ابعد مايكون عن الشعر ..
يوسف عوض العازمي
alzmi1969@