أخبار منوعة

‫د. سليمان الشطي: زمن أدب وسائل الاتصال الحديثة قادم‬

ماذا لو قيل لطه حسين إننا لا يعوزنا رفيق ليقرأ علينا كتبه، فنحن نصغي إليها على مواقع اليوتيوب والساوند كلاود ممدين في أسرّتنا، أو مسندين الظهر إلى مقعد وثير؟ ماذا لو توافر على عهده حينما منع كتابه «في الشعر الجاهلي» نسخ من «البي دي إف» يطالعها الجمهور عبر أجهزته النقالة؟ الكتاب لم يختفِ كما كان البعض يتخوف، بل تنامت صوره وتعددت، عادات القراءة، العلاقة الحميمة بملمس الكتاب، الشعور بالرهبة أمام مغلفه السميك على رف في مكتبة. ترى كيف هي خبرة الأجيال المختلفة من الكتاب في علاقتها بـ«خير جليس»؟ ماذا قرأوا أول الأمر؟ ما الذي دفع بهم إلى عالمه الساحر وجذبهم ليكونوا ضمن جوقة صانعيه؟ أمس واليوم.. كيف اختلف عالم النشر والعلاقة بالمكتبة الخاصة؟ تلك وغيرها أسئلة نطرحها على أجيال من الكتاب يعكسون بدورهم صورا من تطور العلاقة بالكتاب وبإنتاجه وتلقيه.

في هذا الحوار الثقافي يعود بنا د. سليمان الشطي إلى البدايات حيث خطواته الأولى مع القراءة والكتب، كما يطل بنظرة الناقد والأكاديمي على بعض ظواهر المشهد الثقافي: صراع الكتاب الورقي والإلكتروني، الجوائز الأدبية، وصعود السرد الروائي، اليكم حصيلة اللقاء.

كيف كانت البداية مع القراءة؟ وما الكتاب الأول الذي كان بوابة الدخول إلى عالم القراءة؟

– الكتاب الأول دخل علي من بوابة الأذن، فسماع الحكايات الشعبية، ثم الكتب التي سجلتها مثل الف ليلة وليلة والسير الشعبية؛ عنترة بن شداد والأميرة ذات الهمة وسيف ذي يزن. هذه هي الروافد الأولى التي حمست حس القراءة وكانت الأرضية التي اعتمدت عليها فيما تلاها من قراءات، فعندما تقرأ ثمانية مجلدات عن عنترة بن شداد ومثلها تغريبة بني هلال فيعني أنك اكتسبت الصبر على القراءة، وهو صبر ساعدت عليه تلك المتعة التي تحققها القراءة.

كتابان في أول المسيرة

في حياة كل مبدع كتاب (أو عدة كتب) يعتقد أنه الأكثر تأثيرا في مسيرته الإبداعية ما هذا الكتاب الأكثر تأثيرا في رحلتك الإبداعية؟

– أجد نفسي مشدودا إلى عدد من الكتب التي كان لها أكبر الأثر في تحديد مسارات القراءة عندي، وأخص منها كتابين وقعا في يدي في لحظة واحدة، فقد اشتركت في مسابقة ادبية وأنا في السنوات الأولى من المتوسطة، وقدر لي أن أكون أحد الفائزين، وكانت الجائزة كتابين أحدهما جعلني اسهر الليلة الأولى معه حتى صباح اليوم التالي، وكان ذلك الكتاب هو الرواية المشهورة «البؤساء» لفيكتور هيغو، رواية لا أزال أتمثل كلماتها الأولى التي تقول:

«ما دامت مشكلات العصر الثلاث – الحط من قدر الرجل بالفقر، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع، وتقزيم الطفولة بالجهل لم تحل بعد. فان كتبا مثل هذا الكتاب لا يمكن أن لا تكون ذات غناء». وقد ظلت شخصيتها الرئيسية (جان فالجان) أول شخصية روائية تسكن في ذاكرتي وأدركت، فيما بعد، سر التحول من حالة الشر إلى الخير في شخصيته.

أما الكتاب الثاني، الذي قدم لي أيضا في تلك الجائزة، فقد كان كتاب «لمحات من تاريخ العالم» لجواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء لجمهورية الهند، والمناضل المشارك لغاندي في حركة تحرير الهند. والكتاب في أصله رسائل كتبها لابنته أنديرا غاندي، التي ستصبح أيضا رئيسة لوزراء الهند بعد ذلك، كتبها عندما كان في المعتقل في أوائل الثلاثينات. في هذا الكتاب انفتحت أمامي مساحة واسعة من ملامح التاريخ الحضاري، الذي امتدت مساحته عبر الزمن، حيث أضاء لمحات حاسمة من تاريخ البشرية، وشملت نظرته العالم كله. قدم دروسه التاريخية بإيجاز واختيار حصيف، فكان حصيلة معلومات ودروس، تجاورت في ذلك الكتاب معلومات أولية ونظرات موجزة في التاريخ والسياسة والفلسفة والاقتصاد ينقلها أب متميز لابنته. لقد لاقى ذلك الكتاب نفسا في بداية تفتحها على سحر المعرفة وفتح لي باب القراءة خارج حدود قراءاتي السابقة، أصبحت النظرة الموسوعية هدفا من أهدافي، محققا قول العرب القدماء: اعرف شيئا عن كل شيء، وكل شيء عن شيء.

النشر المباشر

فلننتقل إلى عالم الكتابة والنشر، يقال ان الإصدار الأول هو بوابة العبور إلى عالم الإبداع والنشر وهو خطوة بمنزلة الحلم، كيف جاءت هذه الخطوة الأولى في عالم النشر؟ وهل كانت هناك عقبات في نشر الكتاب الأول؟

– كان جيلي قد ورث عن الجيل السابق الاتجاه إلى الكتابة المباشرة، عن طريق النشر في الصحف المتيسرة، ولم يكن هناك اتجاه لإصدار الكتب إلا ما ندر، فقد كان الشعراء وكتاب القصة والباحثون يكتفون بهذا النشر المباشر، فلم يصدر فهد الدويري مجموعته، ولم يجمع احمد العدواني شعره، وهكذا مع أن جيل الرواد هذا كان قد بدأ في الأربعينات، وقل هذا عمن سبقهم مثل فهد العسكر والشبيب. كان هناك قلة في إصدار الكتب لأسباب قد يطول شرحها، لذا لم تصدر إلا أعمال معدودة.

لذا أقول اننا ورثنا هذا السلوك، فمع انني بدأت الكتابة والنشر في مطلع الستينات وكنت نشطا في منتصفها فإن المجموعة الأولى صدرت في أوائل السبعينات، وجاءت هذه الخطوة بناء على نصيحة من شاعرنا الكبير علي السبتي، شفاه الله، الذي قال لي: أصدر مجموعتك وأنت لا تزال طالبا في الجامعة، فأخذت بنصيحته. وقد لقيت ترحيبا من أستاذنا الدكتور يعقوب الغنيم، وقد أنشأ حينها مكتبة الأمل، فتولى طبعها وصدرت، وكان الترحيب بها يمثل امتدادا لما حظيت به تلك القصص من تعليقات حين نشرها الأول.

لمن الغلبة؟

هل ثمة صراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني؟ ولمن ستكون الغلبة؟

– لا أعتقد أن ثمة صراعا بين الاثنين، فالقضية كلها منحصرة في إحلال وسيلة مكان أخرى في توصيل المعرفة، فقبل المطبعة كانت المخطوطات، ثم جاءت المطبعة، والآن جاء الكتاب الإلكتروني، وسيلة جديدة نظيفة أقل تكلفة وأكثر طواعية. ومن ثم تصبح القضية محصورة في تغيير علاقة بين متلق ووسيلته التي يقرأ بها. وهنا تدخل الألفة والاعتياد، فمن تربى، ومن ثم اعتاد، قراءة الكتاب المطبوع وألف تقليب الورق سيواجه صعوبة في التحول، بينما الجيل الذي فتح عينيه وتحركت أصابعه على مفاتيح الأجهزة الحديثة ستكون إلفته مع هذه الوسيلة الجديدة. ومع مرور الزمن سيقل عدد من ألفوا الكتاب الورقي وسيكتسح ميدان القراءة من ألف الكتاب الإلكتروني. إنها سنة الكون، وهل نملك لهذه السنة تبديلا؟

موت الرواية

ازدهرت الرواية في السنوات الأخيرة ازدهارا لافتا فهل اصبحنا في «زمن الرواية» حقا كما يقول عنوان كتاب للناقد جابر عصفور أم اننا في زمن فوضى الرواية؟

– هل المقصود ازدهار أم كثرة، وهل المقصود هو حالة رواج وانتشار قياسا على ما سبق، وهل هذا الانتشار يجعلها هي سمة العصر بحيث يكون الزمن هو زمنها؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى مناقشات طويلة لا يسمح بها المقام، فإذا قلنا ازدهار، فهذا يعني نوعية خاصة من الروايات تمثل نقلات مهمة في الفن الروائي، ولكننا نعلم أن العصر الذي شهد نمو الفن الروائي ونضجه عالميا هو الحقبة الممتدة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين حتى أصبح نتاج ذلك العصر وتحولات الشكل الفني وتجاربه الكبرى هي النموذج الذي يحتذى. وفي الأدب العربي سنجد أن هذا الازدهار الفني والتحولات الكبرى حملها جيل النصف الثاني من القرن العشرين مثل نجيب محفوظ والطيب صالح وأضرابهما. فهل هذه الحقبة التي نتحدث عنها قدمت تحولات تحسب لها ليكون زمنها زمن الرواية؟ الأمر هنا يحتاج إلى أكثر من مناقشة تفصيلية حتى يتم التسليم بهذه المقولة.

وإذا أخذنا حالة الرواج والانتشار، فسنجد أن أكثر الكتب توزيعا هي الكتب ذات النزعة الدينية أو التي تركن إلى التوجيه الديني فحققت عدد طبعاتها سبقا غير معهود، فهل هو زمن الكتاب الإسلامي؟ قد اوافق على هذه التسمية (زمن الرواية) اذا حصرنا الأمر في الأجناس الأدبية: الشعر والمسرح والرواية سنجد أن الرواية هي الأكثر حضورا فقد حلت الدراما التلفزيونية مكان المسرحيات، واصبح تبادل الشعر ليس عن طريق القراءة وطباعة الدواوين ولكن عن طريق السماع ووسائل الاتصال الحديثة.

ولكن هذا القول بزمن الرواية يصطدم بمقولة أخرى تقول بـ«موت الرواية»، فقال البريطاني ويل سيلف: إن الرواية محكوم عليها أن تصبح نوعا أدبيا هامشيا، وقالت الكاتبة الفرنسية ايزابيل هوسير ان قرننا الحالي سيشهد موت الرواية بسبب الميل للجانب العقلي والواقعي. ومن ثم فإن جانب الخيال الذي تعتمد عليه الرواية قد يأخذ شكلا خارجا عن إطار الرواية.

ونستطيع أن نقول مضيفين: أليس أصدق الأقوال هو أن هذا «زمن وسائل الاتصالات الحديثة» التي أصبحت سيدة الموقف في تبادل الفكر ومن ثم النفحات الابداعية، ومن ثم ازدهرت معها كتابة خاصة سيكون لها وجود خاص مستقبلا عندما تترسب تجاربها ولغتها الخاصة ويتشكل تاريخها الإبداعي ويأخذ شكله المناسب ليكون أحد قنوات الابداع، أليس القادم هو زمن أدب الاتصالات الحديثة؟

كل حركة بركة

الحديث عن الجوائز الأدبية حديث صاخب بين من يرى أنها اضافت للإبداع وحركت مياهه الراكدة، وفريق آخر يشكك ويرى فيها نقمة على الإبداع، فكيف ترى الأمر؟

– نقول كل حركة بركة، ويكفي من فوائد الجوائز أنها سلطت الضوء على المبدعين وشجعت حالة القراءة. ويبقى فساد التنفيذ وأمراض الفساد التي تنفذ إلى كل شيء، حتى اكثر الجوائز شهرة واحتراما، جائزة نوبل، لم تخلُ من اللمز والغمز ولكن النقد لهذه الجوائز وآلياتها يصلحها ويُبقي فوائدها.

القبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock