كتاب أكاديميا

يوسف عوض العازمي يكتب: أسطنبول .. الذكريات والمدينة

” أحب أمسيات نهاية الخريف وبداية الشتاء ، حين تهز الرياح الشمالية الاشجار الجرداء ، ويندفع الناس فى السترات والمعاطف السوداء “

( أورهان باموق )

الأدب في تركيا الحديثة له جذور عميقة ، خاصة عندما نتوقف أمام الثقافة والفنون والآداب لهذه الأمة العريقة التي حكمت العالم الإسلامي لعدة قرون، و قرأت مرة أنه ” يعود تاريخ ظهور الأدب التركي إلى ما قبل القرن الثامن ميلادي، وذلك استناداً على “نقوش أورخان” التي عُثِر عليها قرب وادي نهر أورخون وسط منغوليا، وقد مر هذا الأدب بعدة عصور شكّلت ماهية الأدب التركي الحالي ” *

و كان ألغاء الحروف العربية و إحلال اللآتينية مكانها عام 1928 م ، هو أخطر ماطرأ على الأدب التركي و الثقافة بشكل عام في بلاد الأناضول ، و بعد هذا التغير بدأت الثقافة و الآداب في تركيا الجديدة تأخذ منحنا” داخليا” و قوميا” ،، بأفكار خاصة ، منغلقة على الجانب القومي ، متأثرة بالتغييرات السياسية الجذرية التي حولت البلاد من وضع إلى وضع آخر ، في إنقلاب على كل المفاهيم و القواعد ، و بعد هذه المرحلة المفصلية من تاريخ تركيا الحديث ، ظهر عدة أدباء و روائيين لعل أشهرهم الروائي ” أورهان باموق ” الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006 م ، و تعد مؤلفاته علامة فارقة في تاريخ الأدب التركي ..

قرأت كتاب ” اورهان باموق ” المعنون ” اسطنبول .. الذكريات و المدينة ” ، و كان يتملكني الشغف لقراءة الكتاب لما يتمتع المؤلف من سمعة عالمية براقة ، و قرأت الكثير عن المؤلف و للأمانة جل المقروء إشادة و مدح ، و قرأت له مقتطفات من روايات مختلفة منها رواية ” ثلج ” ..

ثم قرأت الكتاب ( اسطنبول . الذكريات و المدينة ) الذي يصنفه البعض أو الكثير كرواية ، و وجدت أنه مقالات طويلة تم تجميعها و وضعها ككتاب ، و لايضر هذا الامر لأن كثير من الكتاب يستخدمون مثل هذا النوع من ” التوضيب ” ، الذي قد يكون أحيانا” فيه ترتيب لأفكار الكاتب ، و حتى ترتيب لذائقة القراءة للقارئ ..

يضم الكتاب ذكريات يكتبها بشكل مباشر متوشحة بالحس الأدبي المميز ، كأنة شخص يجلس بجانبك و يقصص عليك ، مما أستوقفني أنه في بعض المواقف بالكتاب أن الكاتب يستخدم العبارات التي تثير الجدل والمتركزة حول الثالوث المحرم ، إذ يتحدث و يلمح تلميحات لعدة مواقف رغم أن التلميح العابر كان يكفي كأداة توصيل بشكل أدبي يستفز القارئ بطريقة ذكية ، لكنه أعتمد المباشرة !

الكتاب أو الرواية ( سمه ماشئت ) يحتوي عدة مفاهيم و ملمات نفسية و إنسانية أكثر منها فكرية ، و منها هذه الملامح : ” كان ذلك حتى و أنا طفل ، يجعلنى أعرف أن حضارة عظيمة قامت هنا ، و مما قالوه لى : كان هناك اناس يشبهوننا عاشوا في زمان ما حياه مختلفه تماما عن حياتنا ، و قد تركونا نحن الذين أتينا من بعدهم نشعر بـأننا أفقر و أضعف و أضيق أفقا” “

باموق يستخلص مشاعر الأزقة الضيقة و المسافات الواسعة مابين فترة أفول الدولة العثمانية و بروز دولة أتاتورك ، يسترسل بإرهاصات التحول معاني التناقض بين الماضي و الحاضر ، يستلهم مخاضات التبدل و التغيير ، إذ في نفس المكان و الزمان و الإنسان نفسه تتبدل معايير ، و تتغير مسارات ، عهد هوى بعد مرض ، و عهد إنضوى بعد إرتجاج ، و يعيد باموق مشاعر الماره في الشارع ، و كيف أن الكثير لم يعد يهمه الامر ، و كأن التغيير لايخصه ، و التاريخ و تبدلاته لم تؤثر ، يصور لنا باموق و كأن المارة ( ضمنيا” ) أصبحوا يتلقون الصدمات الحضارية و لم يعد يهمهم سوى لقمة عيش و صحة بدن و أمان في بيت !

في الحقيقة عندما تقرأ العنوان الذكريات و المدينة فهو يقصد ذكرياته هو و مدينته هو ، اسطنبول باموق و ليس اسطنبول البقية ، هو يكتب ذكرياته و يلبسها لباس اسطنبولي فاخر ، مزركش بالشتاء و الثلج ، و يتحدث بعفوية شديدة إذ تشعر و أنت تقرأ الكتاب ، بأنك تقرأ رسالة واتساب ارسلها لك ، كأنه يخاطب القارئ مباشرة ، و أعتقد هذا هو سبب تميز باموق ، و نمو الرغبة عند الناس في تذوق و ليس فقط قراءة مؤلفاته !

بعضا” من ذكرياته شابها الصدق الشديد ، و التجسيد المباشر للموقف ، و ذكر التفاصيل قبل الخطوط العريضة، مع ان كثير من التفاصيل ممكن بحبكة معينة وضعها بين السطور و تركها لذكاء القارئ ، لكنه باشر و تحدث بشراهة ، و أعتقد انه لم يكن مصيبا” في ذلك ، ففي بعض المواقف ليس كل مايعرف يقال ، هناك تفاصيل تبقى مفهومة لاداعي للإنغماس أكثر بتفاصيلها ، هذا يهدد البناء الروائي و لا يخدمة ..

الكتاب و مؤلفه الشهير لايكفيهما مقال ، و لا حتى بحث بل عدة كتب ، و هو كتاب فيه من السيرة الذاتية ، و الفكر المكتوبان بلغة متدرجة الهدوء ، و لهجة تلمح بها حرارة الكلمات ، و سخونة الأجواء النفسية التي واكبت باموق في اسطنبول و شوارعها و حاراتها العتيقة ..

يوسف عوض العازمي
alzmi1969@


  • موقع ترك برس ، بقلم اكاتب : أسامة حساني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock