كتاب أكاديميا

نورة العجمي تكتب: البر من الطرفين

بريطانيا – العصر الفيكتوري

١٨٣٨١٩٠١

قصر عائله (……)

: سيدتي ، ابنك ينتظرك في الحديقة ، لقد حان وقت شرب الشاي .

حسناً .

– ولدها مُراهق ، مشاعره جيّاشة ، يُحب العزف ولكن سمعه خفيف .. يحب الكتابة ولكنه لا يقرأ ! قلبه عطوف .. ولكن أمه لا تلتمس من هذا العطف أي شي .

– يُجبر الولد بالتحدث لأمه بعض الأحيان لأنها أمه فحسب ، أو في قوانين هذا القصر أو للتسلية !

ثمة شيء يحوم في قلبها .. تندثر الأفكار في عقلها ، تولد أفكار ومواقف لم تحدث لإستغرابها من هذه الدعوة منه ، تفكر وكأنها كاتب لم يكتب من مدة واستفرغ عقله من الحروف وازدادت رغبته في الكتابة بشدة واضطر ليخلق فكر ومشاعر سُبق وإن لم تحدث فقط لإطفاء نار رغبته .

هي امرأة ذات امبراطوريةٌ عالية ومسيطرة ، ولكنها عند فلذة كبدها تنهزم !

تسير بغموض .. تقدم قدمها الأولى تارة والثانية تسبقها تارة ، وهي تكاد بأن تقترب منه تراه وتتمعن بالنظر إليه لتقرأ ملامح وجهه فالأم عادتاً تقرأ ابنائها كالكتاب المفتوح .

تصل إلى محطتها المقتصدة .. وبصوتٍ يحمل من الإساء ماكفى : مرحباً هل اردتني ؟

الولد : نعم أريد التحدث معك قليلاً إذ أمكن ..

أمي .. لقد إجتاح الشيب وجهك ، تصارع مع شبابك وانتصر ، وبدأت الأمراض تغرقك ، وجعلت من أبي مُقعد .. لانعرف ماذا سيحصل بعد سنة أو بعد ساعةٍ من الأن ، سلموا لي العهدة وكل ما تملكان أنتِ وأبي للأخذ بالحذر ، ونأخذ أنا وزوجتي مكان سُلطتكم ، وإلا سأضطر بأن أتخذ إجراءاتي بالمكان الذي سيتكفل بكم .

الأم : وكأنك رميتني بسهم من سهامك التي تُحارب بها ياولدي .. أنا لست عدوتك ولا أباك ، إن كان والدك مُقعد فهذا ليس عذر ، عقله إلى الأن ينتقل إليه الدم ويُرسل إشعاراته ويفقه مايدور حوله وما يفعل ، وكبري ومرضي ليس بالأمر الصعب فأنا أتحرك وأفكر هذا مايهم بالأمر ، وكان بإمكانك التحدث معي بأسلوبٍ افضل من هذا بكثير ، حيثما سترميني أنت بمكانك الذي تقول عنه ستكون أنت فيه بيومٍ من الأيام ، وأنا لا أُريد هذا لك .

– ضحك الولد ونظر إلى زوجته وقال : كأنها تقول لي لا أريد ولكنها مبطنة .. ما رأيك بأن نتخذ الإجراءات كما أرى بأن لا جدوى بهذا ؟

ملامحٌ مبهمةٌ..شعورٌ غريب ، مثل زارع ذبلت زهرته المفضلة ولكنه يُكابر بإحيائها .

– يسير في خرائط لا يعرف إتجاهها ، وفي مجال لا يعرف عواقبه .. أهلاً بك في خارطة التُيّه .

حلّ وحدث ماقال .. ارتموافي بيتٍ مُخبأ بين الأزقة و المباني الشاهقه لكي لا يصل للإعلام معلومةٌ غير خبر وفاتهم الكاذب ، ولكن كان هناك عنصر يعلم بكل شيءٍ بخلسةٍ كالجاسوس ، قنبلةٌ موقوتةٌ تتحرى الوقت المناسب للانفجار .. وهي الخادمة !

-تمر الأيام ويتقبل الشعب ملكهم الجديد،وتنجب الزوجة طفلٌ بريء ملامحه هادئة،أرق من السحب .

تكلفت بولادته ولكن لم تتكلف في تربيته ، يُربى في حضن غير حضن أمه بسبب إنشغالها في أمورٍ بإعتقادها بأنها أهم منه ، أُجبرت الخادمه  بفعل هذا آنذاك لم تنسى عهدها .

تراكضت السنين..وصل الولد في سن الرشد ، إلى الأن وهو مرميٌ بين الأرفف لا معنى له ، يتساءل بالذي خلقه : عندما ازرع نبتةٌ وأسقي عطشها كل ليلةٍ من دون نداء ، ستثمر وستصبح شجرةٌ نابعة بالخيرات .. ولكن عندما أهملها ستكون شاحبةٌ ذبلاء ! ، ها أنا تعبت من الذبول ، سقطت كُل أوراقي ، تاهت سُبلاتي .

يلقي على نفسه نظرةً عارمةً .. يُحدق من بداية قدمه إلى رأسه ، يرى يداه السوداوتان الشاحبتان الممتلئة بالخطوط ، يفتحها ببطء فتلتم أصابعه بالتوعد ، يتمضحل بمهل .. مخه الأيمن يقول لا .. والأيسرُ يدفعهُ ، ينتابهُ شعورٌ .. رهبةٌ أم خوف ! ، يصل إلى محطته المقتصده ..

أمي وأبي .. السلام منكم وإليكم ، أريد سلامٍ مُفعمٍ بالبياض لُطفاً ، بصوتٍ مليءٍ بالأحزان ولا يعرف معنى الأمان ، أُناشدكم بي .. وإلا سأتبع أفكاري ، وبكل ما حملت كلمة إهمالٍ من حروف : افعل ماتشاء !

– تلجلجت مشاعرهُ .. لا تستطيع إفصاح أي ردة فعلٍ منه ، مشاعر والديه مضعجةٌ في سباتٍ عميق .

اضطر الولد بإتخاذ الملك قصراً على الرغم من انفهم ، وكأنهم أُصيبوا بزهمريرٍ في ليلةٍ هادئة ، وجدوا وجداً ، وكأن الكون يلتف من حولهم والساعة ترجع إلى ماضيها ..

انفجرت القنبلةُ الموقوتة ، أشارت له بمكان قصة فعلة والديه البشعة ، ليتخلص بهم هناك ، على الرغم من خوفه ولكن نجحت هي بالتخلل إلى مخه ..

ذهب لوالديه ليدعوهم على عشاء وهمي فاخر ، قبلوا هذه الدعوة منه بعذر إعادة شمل العائلة .

في فجر الليل وعمق النجوم والقمر المكور ، ترحلوا إلى مكانٍ معتم ولا ينير به إلا مصباحٌ واحد ، وصوت صراصير الليل مكتسحة المكان ، والدهاليز مشبعة بمياه المجاري التي تفور منها ، يضعون رجليهم ببطئ،وتلتمسُ ببحيرة ماء ملوثة ، الوالدان باستغراب : ماهذا المكان الذي اخذتنا إليه ؟

بضحكةٍ متوعدة .. ينظر إليه والكلمات تثور من عينيه وتتراقص لطلوعها .. الصبر جميل !

أُفتتحت أبواب البيت وكان هناك عجوزين مستديرين ظهورهم نحو الطاولة لإستقبال المفاجأة المنتظرة ، أدخل الولد والديه مكان مظلم تسوده الدهمةُ ، فحضنت الحان بيتهوفن المكان و شُبت الشموع ، ولا يرون نفسهم إلا وهما أمام العجوزين والديه في طاولة الجزاء ، تسلل الولد بخلسةٍ إلى الخارج واغلق الباب بكل مالديه من قوة وأقفلهُ ، وقال : لقد عاد شمل العائلة من جديد .. عشاءٌ هني يا عائلتي .

بُكم الأب من شدة هول الموقف .. عيناه فقط تتحدث وتتجول في المكان وتتمعنه بدقة ، يشاهد أمامه شريط ذكرياتٍ غابرةٍ وكأنها تُعاد ، حيثما الأم شابت من كثر الحزن .. شعرت وكأنها في وسط نهر النيل المفعم بالآسى ولكن النهر في هذه الحالة مسود وليس أزرقاً طاهراً ، تشعر وكأنها فلسطين حين أُحتلت .

ألقو إليه والديه نظرةٍ مفعمةٍ برسائل عتاب وتقول الأم : ياكم كُنت خائفةٌ عليك ياكم .. على رغم سقم فعلتك إلا وإن قلبي يستغيث منها لا منك ، لم أتمنى هذا لك ولكن الله جديرٌ بالحق ، إنما هذا درسٌ لحياة ليس ليوم ، أنت الأن ستقع أمامي وسأرفعك ، مهما كبرت وكبرت أفعالك ستبقى بعيني طفلٌ رضيع ، لن اكذب وأقول بأنني لست مستاءةٌ من فعلتك .. بل أنت جعلت الحزن مقر قلبي ، ولكن سأُحاول بأن أسامحك ..

– بين حرف الميم والكاف عند حرف الحاء تقريباً .. ينخفض صوتها ، تُسارع بعملية التنفس ، تأخذ نفساً عميق وتزفر الزفير .. في ثواني خاطفة .. لم تلحق ! قُبضت روحها .

حين تصبح الأعين غيومٍ في ليلةٍ ماطرةٍ .. تنغزر بشدة ، في كل دمعة تنزل يسيل منها الندم والآسى ، لم يبقى له سوى أباه ولكن لم يستحمل قلب الأب صدمتين كل واحدةٍ ممتلئةٌ بالكلوم الصارمةِ الصاعقة وهو قلبه ضعيف جداً .. فمات قهراً .

وبقى هو وزوجته ليلتف بهم الزمن ويشعرون بفعلتهم .. ريثما الابن أخذ مايريد، ولكن لديه ثمرة جميلة نابتة في قلبه إنه لم يهجر أبويه بل يواصلهم كل فترة ويرى إحتياجاتهم .

في مرة من المرات رأى رجلٌ الملك يأتي من ذلك المكان الشنيع ذهاباً وإياباً ، فمشى وراءه تبعاً لفضوله ، يرى بأنه يذهب ومعه أمتعة ويأتي  ويده فارغة، دخل الملك إليهم .. فإختبأ ذلك الرجل خلف القمامة إلى أن يخرج .. وحين خرج الملك ذهب الرجل مسرعاً إليهم فدخل ورأى عجوزين ! فسألهم : من أنتم ؟ فقالو له : نحن ضريبة فعلةٍ قبيحة وقصتنا لا تروى .. فستأذنهم لسماعها وحكت لهُ ، إنصعق ذلك الرجل بقصة تلك العائلة الوبيخة ! ولكنهم قالوا له بإنهم يشعرون بالآسى لفعلتهم ولم يبقى من العمر كثر ما بقى ، كبروا وأصبحت أيامهم معدودة ويريدون قضائها مع ولدهم كأسرةٍ سعيدة علماً بأن الولد لم يحظى بأسرةٍ بعد ، فتبرع الرجل بمساعدتهم لوجه الله ، فذهب الرجل إلى الملك في دجى الليل لكي لا يراه أحد ، دخل القصر فطلب بأن يحادث الملك بشأنٍ مهم ، وافق الملك لمقابلته وقال له عن كل ماحصل وما يعلم به ، تفاجأ الملك .. ولكن كلمات الرجل حركت شيءاً به .. استعمرت قلبه ، وعم الصمت للحظة .. فطلب الملك من الرجل بأن لايصل هذا العلم لأحد ويريد الجلوس لوحده لإسترجاع افكاره وترتيب شتاته ، فذهب الرجل ليبشرهم بالأمل القادم ، بعد يوم من هذه الحادثة وصلت له رسالة من ساعي البريد مكتوب فيها : عند عودتك سأرقص حزناً .. سأبتسم عُبساً .. سأراك عُمياً ، لم يهتم لها كثيراً لأنه يعرف من أرسلها،قرر .. فذهب لهم ، وهو في الطريق تارة يتقدم بخطوته وتارة يتراجع خائف بأن يندم بعد ذلك ، وصل .. فتح الباب .. كل الاتجاهات والأنظار مُدية إليه ، شعروا بأن الشمس اشرقت من جديد بشكلٍ غريب ، شعر هنا بأنهُ قد ولد من جديد ، وأحسّت الأم بشعور المسؤولية فأصبحت الموطن واستوطنوا به ، لا عوض عن الأب والأم ولا عوض عن الأبناء زهرة الدنيا ، وحين يكون البر من الطرفين يكون أجمل .

يا مُنادي للأرواح وجالبها .. يا نافخ الأرواح وباعثها

طفلٌ دمرهُ الطمع والقيادية .. لبس قلبهُ غشاءٌ أسود

فاعتدى على عينيه العميُ .. لا يعرف كبيرٌ أم صغيرٌ

إذ والديه لا يعرفُ .. تناسى الحملُ والتسعة أشهرُ

والمرضُ والجهلُ حربهُ .. طبيبةٌ أم معلمةٌ اصبحت

إذ أبيه اصبح لهُ حارسُ .. جنديٌ أخٌ فارسٌ عاش لهُ

ولكن عمت الإمبراطورية والدر قلبهُ

حقق منالهُ واجتاز صعابهُ .. فرمى والديه بعيداً عن الأنظارُ

كون أُسرةً لهُ ورُزق بطفل .. أهملهُ فتلاعب معهُ لعبة الجزاءُ

فالله جديرٌ بالحق .. ريثما اصبح دارهُ عند والديهُ

ولكنه كان عطوف القلبِ قليلُ .. إذ كان يأتيهم كل فترةُ

رجلٌ خيرٌ أصابهُ فضولٌ عن سير الملك .. كل فترةٍ في ذلك الطريق وحدهُ

سأل فنال جوابهُ .. ولم يُعجبهُ الحالُ

تحادث معهُ وألقى السلامُ .. ليولدُ كُلٍ منهم من جديد

عادوا أُسرةً متحابة .. وعاد الوطن واستوطنوا .

بقلم : نوره علي العجمي .

_Twitter: @62alajmiix

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock