كتاب أكاديميا

أسماء السكاف تكتب: من قصص الحب والحرب

 

خرجت وفاء من بيتها تركض بطريقة هستيرية لا تعِ شيئا مما حولها عبرت الشارع وكأنها لا تسمع النداءات والصراخات لها بأن ترجع أو تحتمي، حتى كأن أذنيها صُمّت عن صوت أولادها الذي ملأ أرجاء الحي رغم كل هذه الضوضاء: ماما لا تذهبي، ماما ارجعي، كان كل همّها أن تصل لتطمئن على والديها أنهما بخير.

دخلت بين الغبار والأتربة تلثمت بالقطعة التي تلفها على رأسها عوضاً عن الحجاب فلا الوقت ولا العقل أسعفاها لتبحث عن حجابها وتضعه بطريقة صحيحة فطالت يدها أقرب قطعة قماش لا تدرك حتى ما هي ولفّتها على رأسها وركضت، من بين الصراخ والغَبَش الذي يملأ المكان لا هم يُدركون أهو ضباب أم غُبار أم رُكام، وجدت وفاء والديها جالسين متسمرين بمكانهما متقاربان من بعضهما وكأنهما يرجوان الله ألا يغادر أحدهما دون الآخر، سحبتهما وهي تُحاول إخفاء جسديهما النحيلين بجسدها، خرجت بهما باتجاه منزلها القريب، والدها يتكئ عليها ويسأل: وفاء أين سقطت القذيفة؟ هل عرفتم على أي منزل سقطت هذه المرة؟ 

عبروا الشارع الخالي تماما سوى من أصوات القصف وبعض الشظايا المتناثرة يمنةً ويسرة فقد نزلت القذيفة هذه المرة على المنزل الملاصق لمنزل والدي وفاء وامتلأت أرجاء الحي بركامِ وأتربةِ ذاك المنزل الفسيح الجميل سابقاً.

دخلت منزلها وأقبل الصغار يبكون ويتلمَّسونها إن كانت سليمة، إلا زوجها الذي نظر لها بغضبٍ وحبٍ في آنٍ واحد وقال: لو نزلت عليك شظية ورحلت مع من رحل ما ذنبهؤلاء؟ وأشار للصغار، نزلت دموعها بصمت وكأنها للتو بدأت تستوعب وتعي ما حدث معها، تصرفت بلا وعي ولا إدراك ولا تفكير كان كل همّها أن تُدرك والديها وتراهما بخير، بعد ساعات وبعد أن هدأ الوضع قليلا ولم تعد تُسمع أصوات الطيران المرعبة خرج الجميع للشارع من منازلهم بشكل روتيني تعودوا عليه ليروا حجم الأضرار وكم شهيداً وكم جثةً ستُنتشل اليوم، لم تخرج وفاء وحتى كانت تتمنى ألاَّ تسمع الأصوات التي تأتيها من الخارج، عندما دخل الجميع سألت زوجها : ألا زلت مصرا على البقاء أيُعجبك الحال هكذا؟، ماضرَّ لو خرجنا حالنا حال من وصل بيروت أو إسطنبول، لم يُعلّق زوجها أو يتفوه بكلمة فالموضوع منتهٍ بالنسبة له، كان زوجها من أوائل الشباب الذين خرجوا للمطالبة بالحقوق والثورة على ما لا يعجبهم من أحوالٍ متردية وسيئة بشكلٍ غير قابل للوصف، وفاء كانت ضد الخروج تماما كل ما كانت تريده السلامة بالشكل الذي يؤَمِنُ لهم لقمة العيش فقط،(نمشي قرب الحائط ) ومع ازدياد الأوضاع سوءا بدأ غضبها يخرج على زوجها وكل من طالب بالحق والحقوق.

في صبيحة أحد الأيام التي تمر ببطءٍ على أهل المدينة تماماً كما يمُر الوقت على أمٍ تنتظر عودة ولدها المسافر في الساعات الأخيرة التي تُقاس دقائقها بسنواتٍ وليس ثوانٍ، دخل أحد الجيران مُلقيا السلام مُبشراً الجميع بأن أحد المعابر الحدودية المؤدية لبيروت قد فُتح ويقولون لفترة مؤقتة فمن لديه الهمة ليستعد سأخرج ومعي البعض ليلاً من طرف البساتين لتجنب الحواجز، سمعته وفاء وهي تحاول إعداد طبخة من الموجودات القليلة في المنزل فالحصار قد استنزف كل شيء، أسرعت وفاء للجار قائلة: أنا سأغادر ومعي أبنائي الأربعة، فجأة التفت لها زوجها الذي كان يسمع ولا يعنيه شيءٌ من الكلام نظر بغضب: من الذي سيذهب يا وفاء؟، لم تسمع ما قال فقد ذهبت لتضع ما تبقى لديهم من ثياب في شيءٍ يسهل حمله لتغادر به ليلا.

أخبرها زوجها بأنها طالق لو سافرت مع الركب الذي سيغادر ليلا، ظنَّ حينها أن حبيبته التي أمضى معها ستة عشر عاما مليئة بالأحداث الجميلة والذكريات السعيدة واللطيفة لن تتجرأ على اتخاذ خطوة جريئة مجنونة كهذه، وفاء لا تستطيع العيش بدونه ولا حتى التصرف بدونه، لن تقوى على تركه قلبها أضعف من هذا بأضعاف، لثقته بذلكلم يمنعها بالقوة ولم يُحاول أخذ أبنائه منها كمحاولة إثناءٍ لها عما تفعل، في داخله يقول: ستعود ولو وصلت إلى الحدود لن تفعلها سترجع.

في الليل كان كل شيءٍ جاهزا، وفاء تشعر بقوةٍ لم تشعر بها في حياتها من قبل، تماما كما تستأسد اللبؤة عندما تحمي صغارها من خطرٍ ما، معها والديها وأبناؤها الأربعة والقليل القليل من الحاجيات التي لا تُذكر فمع كثرة التنقل واختباء زوجها المتكرر فقدوا معظم ما يملكون.

وصل الركب إلى الحدود، قافلةً صغيرةً إلى حدٍّ ما تضم ثلاث عوائل، الدخول بالبطاقات (الهويات) وليس بالجوازات، خُتمت بطاقات الجميع للخروج ونادى الموظف على وفاء: من منكم وفاء محمد؟، تبدَّلت ألوان الجميع وخيَّم صمتٌ إضافيٌّ على الصمت الموجود، خافوا كلهم وأولهم ابنها البكر ذو الخمسة عشر ربيعا الذي كاد أن يقفز من مكانه عوضاً عنها لولا أن أمسكه الجار من يده راجياً إياه أن يجلس بنظرة ترجي، بدأت قوة وفاء التي شعرت بها بالتلاشي: نعم أنا أنا وفاء

دخلت للداخل مع الموظف، المكان كئيبٌ شاحب سيء عفن يشبه وجوه موظفيه، باختصار تام كانت المساومة إما إبلاغهم عن مكان زوجها ورفاقه وإما أخذ بكرها منها، لم يطل الوقت كثيرا فما سمعت من قصصٍ وأحداث كان كافيا ليختصر تفكيرها، لم تكن بحاجةٍ لترى جديتهم.

مع تسلل خيوط الفجر وانبلاج الصباح دخلت وفاء ومن معها إلى بيروت ودخلت كتيبةٌ مدججة لمنزلهم في مدينتهم.

قصة حقيقية من قصص الحب والحرب التي حدثت العام الماضي، وكأننا نضطر لتبرير وتشريع بعض الخيانات التي يفوق ألم قصصها تحملنا.

أسماء السكاف


займ на карту быстро

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock