كتاب أكاديميا

علي الفضلي يكتب: خواطر نفس / كُن شيئاً!

لم تزل البشرية، منذ أن وطئت قدما أول إنسان على ثرى البسيطة، وإلى ما شاء الله، تمضي في رحلتها في هذه الدنيا في اتجاهين، اتجاه يسير عليه الأكثرية، وهو اتجاه من لم يعرف حقيقة وجوده، حيث المرور العابر وغير الواعي لسنوات العمر، حتى يبلغ الأجل، فيغدو فيه صاحبه بعد رحيله من هذه الدنيا نسياً منسيّا. واتجاه آخر، وهو اتجاه يسير نحوه القلة القليلة، حيث المرور الواعي في هذه الحياة، وترك أثر طيب قد يمتد وجوده عبر الزمان.
إن ميزة أصحاب الاتجاه الأول (الأكثرية) أنهم قد ارتضوا بإرادتهم بأن يكونوا نسخاً مكررة لعقول وسلوكيات بشرية لم تجد في هذه الحياة سوى التعلق بالفناء وإشباع رغباتها المؤقتة، والرضا بأدنى الدرجات وتحقيق مرادهم بأقل المتاعب، والبعض منهم يعيش في هذه الدنيا دون هدف واضح فتجده يتخبط في مسيرته في الحياة، تضيع عليه الفرصة تلو الأخرى، بل إن هناك من يعيش في هذه الدنيا بلا هدف!
أما أصحاب الاتجاه الثاني فميزتهم أنهم متفردون، متمردون على التحديات، عاشقون للتضحية، للبذل، أخذوا العبرة من الماضين، وصنعوا حياتهم بأيديهم، فغيّروا وجددوا وابتكروا، فكانت لهم قيمتهم وأثرهم، وكانوا موجودين حقيقة في هذه الحياة!
ليست مسألة أن تكون شيئاً هي أن تكون مشهوراً!، إذ ليس بالضرورة أن نترك أثراً وأن يلازم هذا الأثر صخباً إعلامياً وشهرة منقطعة النظير. إن المصداق المهم في أن تكون شيئاً هو أن تترك أثراً طيباً في نفسك، يكون أثراً طيباً بما يرضي الله عزّ وجل وليس بما يرضي البشر!
أن تكون شيئاً أن تعيش طاهر القلب، أن تكون قريباً من الله، على بصيرة من أمر دنياك وآخرتك، أن تعرف من أين وفي أين وإلى أين، أن يفوح منك عطر المحبة وحسن الخلق متجهاً نحو الجميع، حتى إذا فقدك الناس سألوا عنك، لأنك كنت بالنسبة لهم شيئاً له قيمة في نفوسهم!
أن تكون شيئاً هو أن تكون بارعاً في مجالك، متقناً لعملك. ولا يمكننا اليوم أن نحقق ذلك، وسط هذه الحياة التي تتزايد في تعقيدها إلا من خلال الدمج ما بين التعلم والتدريب، فمن خلال هذين الأمرين نتمكن من أن نوجد قيمة في أنفسنا لنكون مصداقاً لحكمة الإمام علي عليه السلام حيث قال «قيمة المرء ما يحسنُ».
ففي كل يوم نعيشه في هذه الدنيا، يجب علينا أن نركّز فيه على القيمة التي نكتسبها، إن يوماً لا نكتسب فيه قيمة أو معرفة هو يوم ضائع من عمرنا، واليوم الضائع من عمرك يعني أن ما أمضيته من وقت هو: لا شيء، واللاشيء يعني أنك كنت لا شيء، يعني أنك لست موجودا، يعني أنك عدمُ ميت، يعني أنك حاجة زائدة في هذا الوجود وثقل زائد في سفينة الحياة، سيتم رميه في حالة الشدة، وما أكثر حالات الشدة في حياتنا!
أن تكون شيئاً، ليست دعوة إلى الانطواء والانكفاء على الذات، والتفكير بالنفس فقط وإهمال حقك على المجتمع، فمن مصاديق «أن تكون شيئاً» هو أن تكون كالشمس المشرقة من ذاتها، تشرق بضيائها – دون أن تبخل – على جميع البشر في كل يوم. أن تكون شيئاً، يعني أن ما تحققه من إيجابية لا بد وأن يتجه عطاؤه إلى الجميع وليست ذاتك فقط، فمن ليس فيه خير لمجتمعه لا خير فيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock